أحمد الفران يكتب: قراءة فى تاريخ المؤسسة الثقافية المصرية (3)

الإثنين، 28 نوفمبر 2022 10:00 م
أحمد الفران يكتب: قراءة فى تاريخ المؤسسة الثقافية المصرية  (3) صورة نادرة لصحن مسجد أزبك بن ططخ- ١٨٦٠

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كارثة مكتبة "أزبك بن ططخ" بين المحنة والمنحة

كانت منطقة الأزبكية محور المشروع الحضارى والثقافى لإسماعيل باشا بعد توليه حكم مصر فى 1863، ذلك المشروع الذى شكل وجه القاهرة الحالى، ففيها أسس المسرح الكوميدى عام 1868، ثم أمر بإنشاء "دار الأوبرا الخديوية" أو "المسرح الإيطالى" فى الأول من نوفمبر 1869، وكانت اللبنات الأولى لمشروع القاهرة الخديوية، والذى كان يهدف فيه إلى إقامة منطقة جديد على غرار تخطيط مدينة باريس.

ومن المفارقات أن تصاحب عملية التطوير كارثة ثقافية ضخمة، تسببت فى تدمير الآلاف من الكتب والمخطوطات النادرة التى كانت بالمكتبة الملحقة بجامع "أزبك بن ططخ" –والذى تنسب إليه تسمية المنطقة بالأزبكية-، حيث استلزمت عملية التطوير هدم الجامع لفتح الطريق المؤدى إلى شارع محمد على لتسهيل عملية الوصول إلى القلعة، حيث مقر الحكم.

صورة نادرة لصحن مسجد أزبك بن ططخ- ١٨٦٠
صورة نادرة لصحن مسجد أزبك بن ططخ- ١٨٦٠

وبدأ العمل على إخلاء جامع "أزبك بن ططخ" وتوزعت مقتنياته على المساجد، وكان المنبر من نصيب مسجد الإمام الحسين الذى شرع الخديوى إسماعيل فى بنائه، إلا أن عملية الإخلاء لم تدرك أهمية المكتبة الملحقة بالجامع، فحينما بدأت عملية الهدم، نسوا عمال الهدم أو ربما تناسوا، إخلاء الكتب والمخطوطات النادرة التى تعج بها المكتبة، لتستفيق القاهرة على كارثة كبرى طالت ذلك الإرث الحضارى الكبير، فعمال الهدم مدعومين بتجار الكتب والمخطوطات من الأجانب قد استباحوا مكتبة الجامع، واستولوا على ما فيها من النفائس، لتتسرب فيما بعد إلى خارج مصر، مستغلين غياب القوانين أو التشريعات التى تمنع الإتجار بالتراث الثقافى.

هز الخبر أرجاء القاهرة، ليسارع مستخدمو "موظفي" ديوان الأوقاف المصرية إلى الجامع لمحاولة إنقاذ ما تبقى من المكتبة، فلما يدركوا منها غير القليل، أثارت تلك الحادثة انتباه إسماعيل باشا إلى ضرورة حماية الكتب والمخطوطات التى تمتلكها مصر، ويستبيحها كل أجنبى لنقلها إلى أوروبا، ليصدر الأمر العالى فى 1864 "18 رجب 1281ه" بتجديد الكتبخانة القديمة وتزويدها بالكتب".

ولك أن تتخيل حجم الكارثة بمراجعة أعداد المخطوطات العربية النادرة بالمكتبات الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وغيرها، إذ يكشف الفحص الدقيق على سبيل المثال امتلاك ألمانيا وحدها على 40000 مخطوط عربي، اقتنت معظمها المكتبات الألمانية فى فترة وجيزة للغاية بين عامى 1852 و 1887.

شكلت قضية حماية الكتب والمخطوطات المصرية أهمية كبرى آنذاك بعد تصارع لصوص الغرب من تجار الكتب على جمعها ونقلها إلى أوروبا، ومن هنا تأتى أهمية "على باشا مبارك" الذى أعد خطة لإنشاء دار حفظ كتب على نمط دور الكتب الوطنية بأوروبا، بعد الحالة المتردية التى وصلت إليها المكتبات المصرية، وما أصابه من تلف وسرقة وتخريب متعمد.

كانت خطة على باشا مبارك قائمة على تطوير دار للكتب لحفظ التراث فى مصر على نسق علمى مرتب، حيث شغلت تلك القضية ولاة مصر السابقين، وكنت محط اهتمام بالغ، فنجد أن محمد على مثلاً قد اهتم بإنشاء دار للكتب مع عودة المبتعثين من الخارج، والتى بدأت مع تأسيس أول مكتبة يرعاه الوالى بقصر إبراهيم باشا ببولاق، وكانت تلك المكتبة التى أنشائها عثمان نور الدين باشا بمدرسة بولاق عام 1825.

وفى عام 1829، أسس محمد على كتبخانة أخرى، خصص لها مكاناً بالقلعة، حفظت فيها كتبه الخاصة، وأتت الخطوة الحقيقية حينما حدد محمد على ولأول مرة نظام الإعارة عام 1835، وأمر بضرورة حفظ الكتب وحمايتها من الضياع وعدم تلفها.

صورة نادرة لجامع ومكتبة أزبك بن ططخ - ١٨٦٠
صورة نادرة لجامع ومكتبة أزبك بن ططخ - ١٨٦٠

 

انتقلت الكتب فيما بعد بعد زيادة أعدادها وتنوع مجالاتها إلى مقر بيت المال القديم "خلف المسجد الحسيني"، وقد أولى "عباس حلمى الأول" تلك المكتبة عناية كبرى، وكان يهتم بها اهتماماً بالغاً، فأمر بإقرار نظام لتلك المكتبة يضمن حمايتها ويكفل لها الوقاية من التلف والضياع بإعاراتها هنا وهناك.

وعلى الرغم من حالة الجدل التى تحيط بالوالى عباس حلمى الأول، ووصمه بأنه كان يميل إلى الرجعية والجمود، إلا أننا نجده يصدر أوامره لجميع مديريات الأوقاف بحصر كل مكتبات المساجد المتبقية، ورتب لها قائمين عليها ليقوموا بحمايتها وحفظها وترتيبها، وكلن هؤلاء الموظفين تم اختيارهم من العوام، الذين لم يقدروا لتلك المكتبات قيمة، فقد كانوا يبيعونها دون رقيب عليهم، مما بدد معظم تلك المكتبات.

وربما ساهمت حادثة تدمير مكتبة جامع "أزبك بن ططخ" الحكومة المصرية على ضرورة حماية الإرث الثقافى الكبير التى تمتلكه الجوامع المصرية، بإقامة دار تجمع فيها تلك النفاس، كما ساهمت توصية السلطان العثمانى عبد العزيز اثناء زيارته إلى مصر عام 1865، فى تسريع خطوات إنشاء تلك الدار، حينما أشار السلطان على إسماعيل باشا بضرورة إنشاء مكتبة عامة تجمع شتات الكتب والمخطوطات المتناثرة بين مكتبات المساجد والجوامع، حتى يستفيد جميع الناس بمطالعتها.

وبالفعل نحج على باشا مبارك فى إقناع إسماعيل باشا باستصدار الأمر العالى بإنشاء "كتبخانة المدارس" فى 14 أغسطس 1869، فأمر نظارة المالية بتخصيص ثلاثة الاف جنيه استرلينى لدعم هذا المشروع، والتى كانت نواة لمشروع على مبارك الأكبر، حينما اسند إليه الخديوي، جمع المخطوطات النفيسة التى لم تصل إليها يد التبديد لتكون نواة للمكتبة عام فى 22 مارس 1870.

ليبدأ فصل جديد من تاريخ حماية التراث المصرى من الكتب والمخطوطات النادرة بعد قرون من النهب والتدمير، يحمل شعلته مؤسسة مصرية عريقة تحمى تراث مصر وتاريخها حتى اليوم، وهى دار الكتب المصرية، بتاريخها الممتد والعريق.

وللحديث بقية ،،










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة