- زيارة الرئيس السيسى تحكمها فى الأساس عدة معايير واعتبارات تستهدف دعم أمن واستقرار السودان فى ظل الأجواء الضاغطة عليه داخليا والمترصدة به خارجيا.. و3 قضايا لها تأثيرات مباشرة على القاهرة والخرطوم
- المنطقة تشهد منعطفات سياسية واقتصادية واستراتيجية تتطلب وجود تنسيق وتشاور مستمر بين عنصرى وادى النيل
وأمن البحر الأحمر وملف سد النهضة يتطلبان وضع إطار استراتيجى متكامل يمهد لمرحلة جديدة من الجهد المشترك والحوار الدائم
الحكم على نجاح أو أهمية أى زيارة يتطلب دوما البحث عن توقيتها وربطه بمجريات ما يحدث، فالتوقيت دائما يحمل الكثير من الدلالات، خاصة إذا اقترن بتغيرات فى الخريطة السياسية والاستراتيجية، وإذا نظرنا إلى زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى للسودان، أمس الأول السبت، سنجد أنها جاءت فى توقيت فارق وبالغ الأهمية، فالمنطقة تشهد منعطفات سياسية واقتصادية واستراتيجية، تتطلب وجود تنسيق وتشاور مستمر بين عنصرى وادى النيل، خاصة فى ظل وجود الكثير من المصالح المشتركة، التى تتطلب أن يسير البلدان على خط واحد.
واللافت فى هذه الزيارة أنها جاءت وسط حراك دبلوماسى وعسكرى واقتصادى كبير يجرى فى الوقت الراهن بين البلدين، وإذا نظرنا حصرا للأيام الخمسة السابقة لزيارة الرئيس للخرطوم، سنجد أنها شهدت زيارة وزيرة الخارجية السودانية الدكتورة مريم المهدى، للقاهرة، حيث التقت الرئيس السيسى، وكان لها نشاط موسع فى القاهرة، سواء مع نظيرها سامح شكرى، أو حتى فى الأوساط الفكرية والثقافية والصحفية، وفى المقابل كان الفريق محمد فريد رئيس أركان حرب القوات المسلحة يزور الخرطوم، وهى الزيارة التى شهدت توقيع اتفاقية للتعاون المشترك فى مجالات التدريب والتنسيق العسكرى، واتصالا بالتعاون والتنسيق المستمر بين القاهرة والخرطوم، هناك لجان واجتماعات مستمرة بهدف زيادة التبادل الاقتصادى، بما يصب فى صالح الشعبين المصرى والسودانى.
كل ذلك يقودنا إلى حقيقة مهمة، وهى أن زيارة الرئيس السيسى للخرطوم، ولقاءه مع كل أركان الحكم السودانى، لم تأت من قبيل المجاملة لكنها كانت تحكمها فى الأساس عدة معايير واعتبارات، تستهدف العمل على دعم أمن واستقرار السودان خاصة فى ظل الأجواء الضاغطة عليه داخليا والمترصدة به خارجيا، وهى الرسالة التى حرص الرئيس السيسى على تأكيدها فى مؤتمره الصحفى المشترك مع رئيس مجلس السيادة السودانى الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، حينما قال الرئيس: «إن مصر ستظل معكم قلبا وقالبا، داعمة لجهودكم من أجل تنمية واستقرار وازدهار شعب السودان الشقيق، والذى يعد جزءا لا يتجزأ من أمن واستقرار أشقائكم فى شمال الوادى»، مشيرا أيضا إلى السعى نحو «وضع إطار استراتيجى متكامل وتصور مشترك لمختلف أوجه ومجالات التعاون وسبل دفعها، بما يعكس تلاقى إرادتنا السياسية القوية فى هذا الشأن، وبما يمهد لمرحلة جديدة من الجهد المشترك المكثف الذى يلبى مصلحة وتطلعات الشعبين الشقيقين».
فى المجمل ومن خلال كل الشواهد، فهذه الزيارة تاريخية، هى الأولى للرئيس السيسى، عقب تشكيل مجلس السيادة الانتقالى، وتشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة، ما خلق أوضاعا جديدة مختلفة، وروحا إيجابية فى السودان، كما أنها جاءت ترجمة حقيقية لطبيعة العلاقة الاستراتيجية بين البلدين، وتكشف مدى إدراك القاهرة لوحدة المصير والمصالح، وهو ما يستدعى الارتقاء بالعلاقات الثنائية إلى واقع استراتيجى جديد، يفوق ما كانت عليه فى الماضى من مجرد صياغات سياسية، لتفعيل مرحلة جديدة من العلاقات الاستراتيجية.
قبل الخوض تفصيلا فى دلالات وتوقيت هذه الزيارة، أعيد فقط التذكير بحقيقة أن السودان يعد العمق الاستراتيجى لمصر فى الجنوب، كما تمثل مصر العمق الاستراتيجى للسودان فى الشمال، كما أنهما يمتلكان العديد من المقومات الاقتصادية التى تسمح لهما بزيادة معدل التجارة البينية وزيادة الاستثمارات بين البلدين، لتحقيق التنمية الاقتصادية للدولتين، ومن هنا يمكن القول إن هذه الزيارة ستفتح الطريق أمام نقلة نوعية ضرورية وحيوية ومطلوبة فى مجال تحويل الاتفاقات بين الدولتين فى مختلف المجالات إلى واقع عملى سوف نرى نتائجه الإيجابية خلال المرحلة المقبلة، وهو ما سيساعد على ترفيع مستوى العلاقات إلى المستوى الاستراتيجى الذى يستحق علاقات قوية وقديمة مثل تلك التى تربط مصر بالسودان.
دلالة التوقيت وربطها بالأحداث الجارية
إذا أردنا الحديث عن دلالة التوقيت، علينا بداية قراءة خريطة الأوضاع المحيطة بالبلدين، وحينها سنجد أننا أمام مجموعة من القضايا الساخنة التى تشترك فيها مصر والسودان، ومنها على سبيل المثال قضية سد النهضة والوضع فى البحر الأحمر، والوضع فى جنوب السودان، وكذلك ليبيا، ويضاف إلى ذلك توتر العلاقات السودانية الإثيوبية، إثر المناوشات العسكرية التى تجرى على الحدود ما بين البلدين، وهو أمر لا يمكن النظر له كونه شأنا سودانيا، لأنه بطبيعة الحال سيكون له تداعيات علينا فى مصر، بحكم الترابط التاريخى والاجتماعى أيضا.
وإذا خرجنا من نطاق الأزمات والقضايا الضاغطة، فهناك ما يمكن وصفه بالأخبار الإيجابية التى تخص السودان، على رأسها رفع اسمه من قائمة الإرهاب الأمريكية، وإعادة تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، وكذلك مع مؤسسات التمويل الدولية فى أعقاب الإصلاحات الاقتصادية التى بدأت الحكومة السودانية فى اتخاذها، مما ساعد على زيادة انسياب التحويلات النقدية الأجنبية سواء من مؤسسات التمويل الدولية أو من الدول الغنية، وهو ما يساعد على الارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة للشعب السودانى الشقيق، وسيرفع من على كاهله الأعباء التى كانت تكبله لسنوات طويلة.
كل هذه الأمور حدثت ولا يزال بعضها يحدث وله تأثيراته على محيط البلدين، وهو ما يمكن وصفه بمجموعة من التحديات المشتركة التى تواجه مصر والسودان، كانت وراء أهمية تطوير التعاون وتنمية العلاقات بين البلدين، هذه التحديات تؤكد كما أكد الرئيس السيسى، ومعه أيضا الفريق البرهان، حقيقة المسار المشترك والأمن القومى بين البلدين، والذى لا يمكن أن يتجزأ، وإذا ركزنا على 3 قضايا من القضايا الحالية، سنخلص منها إلى أن أهمية الزيارة، وأيضا أهمية رسائلها، التى تتجاوز حدود الدولتين، وإنما سيكون لها مردود إقليمى ودولى، خاصة أن القضايا الثلاث التى أعنيها كانت محل نقاش جدى بين القيادتين المصرية والسودانية، ولها تأثيرات مباشرة ليس فقط على مصر والسودان، وإنما على قوى إقليمية، كانت أبصارهم موجهة للخرطوم السبت الماضى فى انتظار أن تلتقط أى إشارة من هنا أو هناك لتفسير ما يحدث وما يجرى.
سد النهضة والتغيير فى الموقف السودانى
ملف سد النهضة، يعد أحد الملفات الرئيسية فى النقاش المستمر بين البلدين، ولا يخفى على أحد أن هذا الملف كان أحد عناصر عدم التوافق بين البلدين، لأسباب مرتبطة بسياسات معينة كانت سائدة فى السودان، وترى أن السد لا ضرر ولا ضرار منه، ودون الخوض فى هذه التفاصيل، فقد كانت هذه النظرة قاصرة، وغير معبرة عن واقع المخاطر التى تهدد الخرطوم جراء السد، لذلك حينما وضع النظام الجديد فى السودان ملف سد النهضة تحت منظار الدراسة والفحص الفنى البعيد عن أى عواطف أو حساسيات سياسية، كانت النتيجة النهائية التى توصلوا إليها أن السد يعد بمثابة الخطر والتهديد الذى يلاحقهم على مدار اليوم، خاصة بعد إصرار إثيوبيا على الملء الثانى لبحيرة السد فى يوليو المقبل، والتى تبلغ 5.13 مليار متر مكعب من المياه دون التوصل إلى اتفاقية فنية وقانونية، أخذا فى الاعتبار أن الملء الأول للبحيرة أحدث تأثيرات سلبية على محطات مياه الشرب والإمداد الكهربائى فى السودان، ما يعد تهديدا للأمن القومى والسدود السودانية خاصة سدى الروصيرص وسنار، وتهديد عشرين مليون مواطن يقطنون أسفل النيل الأزرق، وهنا أدركت الحكومة السودانية حقيقة الخطر وأين يكمن، فبدأت التعاطى مع الملف بنظرة مغايرة تحكمها المصلحة السودانية.
الوقف بالنسبة للسد الآن ملىء بالكثير من التعقيدات، خاصة كما سبق وقلت إن إثيوبيا مقبلة على الملء الثانى فى يوليو الماضى، وهو ما سيعد نهاية لأى أمل نحو الاستمرار فى المفاوضات التى كانت حتى أسابيع قليلة قائمة، ومن هنا تأتى أهمية أن يكون هناك تنسيق مصرى سودانى، خاصة بعدما اقترحت الخرطوم توسيع مظلة التفاوض بإضافة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية بقيادة الاتحاد الأفريقى فى دورته الجديدة برئاسة دولة الكونغو الديمقراطية، ليحدث نوع من الجدية فى التفاوض، والخروج من الدائرة المفرغة التى تريد إثيوبيا أن نبقى جميعا بداخلها إلى حين إتمام ملء السد، وتضعنا جميعا أمام الأمر الواقع.
النقاش والتوافق السودانى فى هذا الملف هو عنصر ضاغط وبقوة ليس فقط ضد التعنت الإثيوبى، وإنما تجاه حشد موقف دولى مساند للمطالب العادلة والمشروعة من جانب دولتى المصب، التى لا تتصادم مطلقا مع رغبة إثيوبيا فى التنمية، بل على العكس، فكلما كان التعاون الثلاثى قائما زادت فرص التنمية فى البلدان الثلاثة، وهى حقيقة للأسف لا تزال غائبة عن العقلية الإثيوبية التى تتعامل مع ملف سد النهضة وفق منهج تفكيرى عفا عليه الزمن.
«الفشقة» أول خط تماس للحفاظ على استقرار السودان
الأزمة التى تواجه إثيوبيا فى حقيقة الأمر أنها لا تعى جيدا إدارة ملفاتها الخارجية بحكمة واقتدار، بل إنها تحاول دوما الهروب من أزماتها الداخلية بتصديرها للخارج عبر افتعال أزمات خارجية مع جيرانها، وهو ما حدث مع السودان، حينما تصاعدت حدة التوتر الإثيوبى الداخلى بين الأمهرة والحكومة الإثيوبية، وبدأ المجتمع الدولى فى مناداة أديس أبابا بتغليب العقل عن السلاح والقتل فى حل الأزمة، إلا أن الإثيوبيين تجاهلوا صوت العقل والسلام، ولم يكتفوا بمعاقبة الأمهرة، وإنما افتعال أزمة عسكرية مع السودان، لتتحول الكاميرات من الداخل إلى خارج الحدود.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، تابعنا تصعيدا متزايدا على خلفية اتهامات متبادلة باختراقات حدودية بين البلدين، بعدما دخلت وحدات عسكرية إثيوبية الحدود السودانية وتحديدا فى منطقة تعرف باسم «الفشقة» بولاية القضارف السودانية، والقريبة من شمال غرب منطقة أمهرة الإثيوبية، حيث تحاول أديس أبابا السيطرة على هذه المنطقة دون وجه حق.
وكانت البداية فى يناير الماضى، حينما اتهم الجيش السودانى طائرة عسكرية إثيوبية باختراق المجال الجوى السودانى، ووصفت الخرطوم حينها السلوك الإثيوبى بـ«التصعيد الخطير وغير المبرر»، لكن فى المقابل اتهمت أديس أبابا القوات المسلحة السودانية بـ«التوغل فى الأراضى الإثيوبية واحتلال مزارع ونهب ممتلكات»، ولا تزال الانتهاكات الإثيوبية قائمة.
وبكل تأكيد فإن زيارة الرئيس تحمل الكثير من الإشارات التى لا يغفلها كل متابع، أهمها التأكيد المصرى على دعم أمن واستقرار السودان والحفاظ على وحدة ترابه وأراضيه، ورفض أى محاولة للتدخل فى شؤونه الداخلية، وهو موقف مصرى ثابت لا يرتبط كما يدعى البعض بالموقف من سد النهضة، وإنما هو موقف مترسخ فى عقل القيادة المصرية التى أعلنت منذ اليوم الأول لتوليها الحكم فى 2014 بأن أمن السودان جزء لا يتجزأ من أمن مصر.
الحفاظ على أمن البحر الأحمر
لا يخفى على أحد تزايد الاهتمام الإقليمى بأمن البحر الأحمر، وذلك من خلال اقتراح منتديات ومسميات مختلفة، تهدف فى مجملها إلى وضع آلية جديدة للتعاون بين الدول المطلة على البحر الأحمر، شبيهة بتلك الموجودة فى البحر المتوسط، وزادت هذه المقترحات بعدما تزايدات الأطماع فى البحر الأحمر، من خلال قواعد عسكرية أجنبية، أو رغبة لدى بعض القوى الإقليمية بأن يكون لهم موطئ قدم فى هذه المنطقة الحيوية والاستراتيجية، لذلك فقد فطنت القيادة المصرية منذ البداية إلى أهمية هذه المنطقة، وأهمية أن يكون هناك تعاون مع السودان.
بالتأكيد هناك العديد من الملفات التى كانت ولا تزال مطروحة على مائدة الحوار المصرى السودانى، وهو الحوار المستمر على مدار اليوم، وتتنوع مشاربه، ما بين سياسى واقتصادى وعسكرى وغيره، لكن تبقى الملفات الثلاثة التى تحدثت عنها من الملفات التى تحظى باهتمام كبير ليس فقط لدى مراكز صنع القرار فى الدولتين، وإنما لدى الرأى العام المتابع لتطورات ما يحدث، يضاف إلى ذلك بطبيعة الحال كما سبق وقلت الأوضاع فى جنوب السودان وليبيا، وهى قضايا أيضا تستحوذ على تشاور مستمر بين البلدين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة