أكرم القصاص - علا الشافعي

ناهد صلاح

نبيل عيوش.. السينمائي يستدرجنا للجدل بـ"الزاف"!!

الأحد، 28 فبراير 2021 09:43 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

هل تحب الدار البيضاء؟بالزاف !

أجابني بالدارجة المغربية، المخرج نبيل عيوش حين التقيت به منذ عامين في مكتبه بالدار البيضاء، لإجراء حوار تليفزيوني لصالح شركة "ميديا فيجن"، بابتسامة واسعة صاحبت كلمته المغربية الحاسمة التي نطقها بعفوية وعمق كأنه يتنفسها، فانسلت كالحرير؛ مراوغة، ترمي بظلها على حديثه باللغة الفرنسية التي يتقنها أكثر، قصدت بسؤالي الذي يبدو في ظاهره بسيطاً، يتكيء على العاطفة وربما يستفزها، أي سؤال هذا أن تسأل شخصاً إذا كان يحب مدينته، بلده؟!.. لكن ما قصدته هنا هو الكشف عن جانب في شخصية المخرج المولع بأفلام تثير الجدل والاستنفار إلى درجة تجاوزت المدى حتى خارج مجتمعه المغربي، وأبرز حالات هذا الجدل تظهر في الانتقاد الموجه إليه لعدم إتقانه الحديث باللغة العربية، حيث يتساءل البعض: كيف لمخرج أن يتعرف على حقيقة مجتمعه وثقافته وهو لا يعرف لغته جيداً؟، إنه السؤال الذي يحيل الأمر إلى ما هو أوسع، إلى الحديث عن الانتماء والهوية والذات؛ فـ"نبيل عيوش" الذي وُلد وكبر وعاش في فرنسا، يرونه واحداً من سينمائيي المهجر؛ لديه نفس النظرة "البرانية" أو الاستشراقية لمجتمعه، يراه من زاوية البعيد وليس المنغمس فيه، لذا حين نطق كلمة "بالزاف" ملء فمه؛ بدا كما لو كان يختصر السجال الممتد حول مساره السينمائي، والأهم أنه بذكاء من صقلته التجربة؛ قد فهم الغرض من سؤالي، فبينما أردت من خلال – السؤال- الإشارة إلى هوية عيوش المزدوجة والمشدودة بين فرنسا والمغرب، إذ جاء قوله الذي أردفه ببضع كلمات مغربية أخرى تقفز فوق كل الانتقادات:" أنا الآن، هنا في الدار البيضاء، مغربي مائة في المائة".. " لم أكن أشعر بمغربيتي، كما أشعر بها وأعيشها اليوم، فقد تربيت في  باريس وأجواءها، بعيداً عن البلاد ولغتها وأنماط عيشها حتى منتصف التسعينيات، حيث كانت السينما هي أداتي لإعادة اكتشاف جزء من هويتي الشخصية، واكتشاف المغرب العميق والناس الحقيقيين".

   كل شيء في كلام عيوش أو منتقديه يدل على الصراع الثنائي الهوية: مخرج هو فرنسي ومغربي في ذات الوقت، يصنع أفلاماً مغربية تعتمد في أغلبها على التقنيين الفرنسيين، تُهاجَم أفلامه وتُمنَع بعضها؛ فيزداد الإقبال الجماهيري عليها، كما حدث على سبيل المثال مع فيلمه "الزين اللي فيك" (2015)، مُنع الفيلم رسمياً في المغرب بقرار من وزارة الاتصال، بعد الضجة التي خلقها تسريب مشاهد من الفيلم على اليوتيوب، والجلبة التي حدثت دون حتى أن يشاهد الفيلم كاملاُ، فإذ به يشارك بعد أشهر قليلة في تونس بالمسابقة الرسمية لمهرجان أيام قرطاج السينمائية في دورته الـ26، ثم يشهد أضخم حضور جماهيري لأفلام هذه الدورة، إذ بيعت التذاكر في السوق السوداء، كما لم تمنع العملية الإرهابية التي ضربت العاصمة التونسية حينذاك الجمهور من الحضور والاحتشاد أمام قاعة الكوليزي، بل أن الفيلم الذي يصوّر عالم الدعارة في مدينة مراكش قد فاز بجائزة لجنة التحكيم، وكان الفيلم قبل ذلك قد عُرض في دول أوروبية منها فرنسا وإيطاليا، بالموازاة مع مشاركته في مهرجان كان السينمائي، وحينها رد عيوش على سؤال مذيعة قناة فرانس 24 الناطقة بالعربية عن فظاظة الألفاظ في حوار الفيلم: "أتريدين أن أجعلهن يتحدثن كالشعراء، أنا أتركهن يتحدثن كما يتحدثن في واقعهن المعيشي، عندما ننجز فيلماً كهذا يجب ألا نخدع الناس، هذه قناعتي".

  يربح حيناً ويخسر حيناً، إنها طبيعة الحياة وفكرة لعبة المد والجزر الثلاثية، هو طرف فيها مع النقاد والجمهور؛ يحتدم الجدل النقدي حول تجربة نبيل عيوش، ولازال الحديث حول "الزين اللي فيك" مثار مناقشة بين مؤيد لفكرة الفن والحرية وبين إتجاهات تتحدث عن الأخلاق والسمعة، هي الاتجاهات الموجودة في الشارع العادي بعيداً عن الكلام التنظيري في دوائر المثقفين والمبدعين، هنا أتذكر هذه السيدة المغربية التي جلست بجواري في الطائرة أثناء عودتي من المغرب، حين عرفت السيدة أنني التقيت بالمخرج نبيل عيوش، بادرتني بدون تفكير:" إنه رجل يكره المغرب!" ولما سألتها: لماذا؟ أجابتني: "صنع فيلماً يشوه المرأة المغربية"، سألتها ثانية: "هل شاهدت الفيلم أو مقاطع منه؟"، ردت: "لا!.. لكن الجميع يحكون عنه".. إذن هو الخوف الفاجع من السينما ومن الصورة الخفية، ما يجعل هناك نوعاً من تجييش الشارع؛ حسب توصيف المخرج المغربي عبد الإله الجواهري في مقال المنشور بمجلة "سينيفيليا"، مشيراً إلى الآراء المتسرعة تجاه مشاهد مقتطعة من سياقها العام وإلى "الوصاية على الإبداع والحجر على السينمائيين ورؤاهم الفنية المبنية على قناعات فكرية وثقافية شخصية"، من هنا فإنه كلما زادت مطالب منع أفلام "عيوش" زاد الجمهور إقبالاً في المغرب وأوروبا وقرطاج تونس كما حدث فعلياً مع "الزين اللي فيك"، لا أستطيع أن أضم مصر للقائمة لأن الفيلم المغربي أصلاً لا يُعرض في مصر إلا عبر المهرجانات أو الاحتفاليات السينمائية الخاصة، وهذه قصة أخرى تخص ظروف العرض والتوزيع التي تخضع غالباً للأفلام المحلية والأمريكية، على أية حال فإن وسائل التواصل الإليكتروني أتاحت الفرصة للتعرف على أفلام نبيل عيوش وغيره، فعلى طريقة "الممنوع مرغوب"؛ فإن المنع أحدث رواجاً كبيراً للفيلم وسجلت محركات البحث الإليكترونية معدلات عالية حول عيوش وأفلامه، وبالأخص "الزين اللي فيك"، فكما حدث في المغرب أن تمت قرصنة الفيلم وبيعه على أقراص مدمجة في السوق السوداء، فإنه على مستوى أعم؛ داخل وخارج المغرب، حطم الفيلم أرقاماً قياسية على موقع جوجل مثلاً، حيث سجلت كلمة الزين اللي فيك أو “zin il fik” أو “much love movie”  في 2015، عام إصدار الفيلم أكثر من 1500 في المائة منذ شُنت الحملات الهجومية ضده.

   ما يعني أن "عيوش" يروي بسرديته الخاصة ما يراه قضية كبرى أو ملمحاً إنسانياً في المجتمع المغربي، يستنطق بالصورة موضوعاً قوياً؛ على قدر جرأته في طرحه وصياغته البصرية، تزيد المساءلة حول العمل وما إذا كان يُشكّل صورة سينمائية عن مجتمعه؟ .. السؤال المطروح دائماً ولم يفلت منه أحدث أفلامه "غزية"، الذي رُشح لتمثيل المغرب في أوسكار أفضل فيلم أجنبي، وظهرت فيه خمس شخصيات رئيسية ترسم صورة بيانية لمجتمع يبرز فيه اختلاف الهوية الدينية، الجنسية، بهذا الفيلم يستكمل عيوش جموحه في مشروعه السينمائي، وهو مشروع مهم سواء كان هناك اختلاف أو اتفاق معه في أساليب طرحه لحكاياته المفتوحة على ألف سؤال، تبلغ به براعة الاختيار حد الجرأة وتجاوز المألوف، بدا ذلك واضحاً منذ فيلمه الروائي الأول "مكتوب" (1997) الذي استوحاه من واقعة فساد معروفة لضابط شرطة كبير، كانت قد شغلت الرأي العام المغربي في بداية تسعينيات القرن الماضي، تميز الفيلم بإيقاعه السريع الذي واكب موضوعه المثير كواحد من أفلام الطريق بصبغة بوليسية، مطاردات وفضاءات للحركة الواسعة والأمكنة، رحلة استكشاف للذات والجغرافيا تدربه على التواصل مع مغربه الغائب، ولأن الحظ مهارة المجتهدين؛ فقد فاز الفيلم بجائزة نجيب محفوظ للعمل الأول، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة لأحسن فيلم عربى في مهرجان القاهرة السينمائي، ما جعل بعض النقاد المصريين يكتبون أن نبيل عيوش هو اكتشاف القاهرة، ثم تأكد هذا الخاطر حين فاز عيوش في مهرجان الاسكندرية عام 2001 بجائزة أفضل مخرج وحصل فيلمه "علي زاوا" على جائزة أفضل فيلم وأفضل مونتاج، وشهادات تقدير مُنحت للأطفال الذين قاموا بالأدوار الرئيسية في الفيلم الذي يروي قصة أبطالها أطفال شوارع في مدينة الدار البيضاء، وخرافة الحلم بعالم مثالي، اللافت أن مهرجان الاسكندرية الذي منحه كل هذه الجوائز؛ هو ذاته المهرجان الذي منع مشاركة فيلمه "كل ما تريده لولا"، حيث تم الاتفاق على عرض الفيلم في الافتتاح ثم تقرر سحبه، لأنه يتضمن الكثير من المشاهد التي قيل أنها تهين المصريين، حسب تصريحات إدارة المهرجان حينذاك، وبصرف النظر عن هذا الرأي السخيف؛ فإن الفيلم ضعيف في رؤيته الفنية التي قامت على أساس ساذج يعتبر أن االرقص الشرقي أساس لحوار الحضارات.

 على أية حال يبقى نبيل عيوش مخرجاً ساهم في صنع حركة بالسينما المغربية، من خلال صنيع بصري إحترافي وموضوعات خاضت في الممنوع: الفساد، الدعارة، الشذوذ، التعصب كما في فيلمه "يا خيل الله" (2012)، مستعيداً الأحداث الإرهابية التي حدثت بالمغرب في العام 2003، مواجهاً الأسئلة الكبرى التي تربط بين الفقر والإرهاب.. إنه جزء من حالة ثقافية فنية إذن، حالة يتداخل فيها إبداع الصورة السينمائية بوقائع العيش في المجتمع وتابوهاته ومحرماته، يتداخل فيها أيضاً تناقض الأسئلة والمواجهة، إن نبيل عيوش ليس ظاهرة فوق العادة، لكنه عبر انهماكه في صناعة فيلماً بعد آخر، هناك تطورات فنية تحدث في مشواره، ثمة توازن يحدث بين الموضوع وحِرفية الصورة، وإن كانت الزوابع حول الموضوع في معظم الأحيان تغلب على الصورة، عموماً فإن رؤيته يختلط فيها الحياتي والإنساني والسينمائي بما لديه من أسئلة ضاغطة تدفعه للحكي عن مجتمعه وناسه بطريقته الخاصة، والأمر هنا لا يستدرجنا إلى صوابه من عدمه في التقاط الحكايات ونسجها وإنما في كيفية صهرها داخل صورة سينمائية لها اتجاهاتها وأشكالها وتنوعها، وإلا تحول الأمر إلى حالة بكائية كالتي حدثت مع لبنى أبيضار بطلة "الزين اللي فيك"، حين ظهرت منذ ثلاث سنوات تقريباً باكية، منهارة على شاشة فرانس 24، قائلة إنها تخشى من أن تتسبب مشاركتها في "الزين اللي فيك" في أزمة نفسية لابنتها.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة