محمد سليم شوشة: عزت القمحاوى والبحث الدائم عن قوالب جمالية جديدة

الخميس، 23 ديسمبر 2021 02:30 م
محمد سليم شوشة: عزت القمحاوى والبحث الدائم عن قوالب جمالية جديدة محمد سليم شوشة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى تجربة الكاتب الكبير عزت القمحاوى تتجسد حال باذخة من الديناميكية والبحث الدائم عن الذات سرديا، عبر استكشاف قوالب جمالية جديدة، يبدو أنه مسكون دائما بحال من الشغف السردي والحكائي الذي تصعب السيطرة عليه ولم يقدر الزمن والتكرار على إصابته بالجمود والثبات.
 
تتجاوز تجربته أسوار الأجناس الأدبية المنيعة التي تكون عصية ومرهوبة أمام بعض المواهب الأقل، لكنه يطير فوقها دون أن يدري تقريبا، ويبدو مسكونا بالحياة والشعف بالبشر وبقص تجاربهم وسرد الخبرة والمعارف بأسهل الطرق وأكثرها عفوية أيا كان ناتج هذه الكتابة أو شكلها أو تصنيفها النهائي، فالمهم هو ما يتوافر لها من الصدق والتدفق والترابط المنطقي والأنساق الجمالية التي تنتظم مادتها كما هي الحال مثلا في تجربة كتابه الطريف غرفة المسافرين، ولكن هذه الظاهرة من الحراك في البحث عن قوالب سردية متجددة ومختلفة لا يمكن تلمسه عبر كتاب واحد، بل هو حاصل فى مجمل المسيرة وأكثر من عمل، فمن البداية كانت تجربة رواية بيت الديب نموذجا مختلفا وحالة خاصة من وراية الأجيال عبر ما فيها من التكثيف والاختزال الذى لم يكن مخلا أو مقصرا فى تشكيل ملامح هذا العالم الروائي الممتد والمتشعب بالأبناء والأحفاد وباختلاف اتجاهاتهم ومصائرهم والدال على أكثر من بعد وملمح اجتماعي مثل مصائرهم مع التعليم أو الزواج أو المال أو الوظائف أو السعادة، وكأنه عبر هذه التجربة يحكى قصة الخلق بتنوع مآلاتهم وحيواتهم وأقدارهم عبر نمط يمزج بين الرمزى والمشهدى والشعري وعبر مستويات عديدة من الاختلاف والحس الفني والتمثيل الخاص في الوعي برواية الأجيال وفق نمط عصري يتجاوز التجارب السابقة عليه ويضيف إليها.
 
في بيت الديب يبدو مشغولا بالسرديات الكبرى وبأثر الزمن، مشغولا بالموت وبالنجاح والفشل، مشغولا بالحرب والسلام والنماء والعائلة التي تزدهر أحيانا وتخبو في أحيان أخرى، وقد تكون هذه العائلة رمزا للدولة أو لأي كيان أو نموذج من الكائنات أو الموجودات له مراحل وفترات ويمر بتحولات عديدة، يبدو في بيت الديب مشغولا بالتاريخ وبالنضال الوطني والحكايات الشعبية ويبدو قريبا من البسطاء ومن أحلام العامة وطموح الضعفاء والفقراء ونزوعهم الفردي والجماعي إلى تحقيق الذات، فلم يكن التعليم مثلا جزءا من حراك شخصية نحو الأفضل أو نحو تحقيق ذاتها، بل كان سبيلا للجماعة وهدفا عاما للخلاص، وهكذا فإن ما قدم في هذه الرواية الملحمية يختلف كثيرا عما سيأتي بعد ذلك من روايات تأخذ نزعة مغايرة، فنجده مثلا في روايته "يكفي أننا معا" مشغولا بالذات الفردية، معنيا بالإنسان في حالاته الخاصة وصراعه الفردي وإشكالاته العميق التي هي بالأساس مشكلة في الخطاب الروائي عبر التفاصيل الحياتية واليومية الهينة، يبدو مشغولا بما قد يتصور البعض بأنه عابر أو سطحي، لكنه في الأساس هو جوهر الوجود الإنساني كما نجد في شخصية جمال المحامي العاشق الذي انتظر طويلا تحت ضغوط حياتية كثيرة أخرته عن الحب، هو نموذج لحالات الانسحاق الفردي، وللأحلام المؤجلة والضائعة أحيانا. 
 
يقارب في هذه الرواية العام والمطلق والإنساني بصفته الكلية عبر هذه النماذج الفردية التي نال منها الزمن، لا يقارب أشكال البطولة الجماعية أو النضال بصوره التقليدية بل يقارب حالات من العطاء والنبل الإنساني الشفيف والطبيعي، يرسم نموذجا إنسانيا مغايرا يتركب من الفضائل والخطايا ويتراكب فيه عديد المتناقضات، ويميل إلى استجلاء نماذجه عبر تقريب للملامح النفسية الأعمق، وهي رواية مهمة لأكثر من سبب ربما أهمها هو كونها قادرة عبر هذه الحكاية الشخصية أو الذاتية أن تنفذ إلى القيم الدلالية العامة والمطلقة ويصور حالة أوسع وأشمل للمجتمع وتحولاته عبر هذه الحكاية الشخصية، ولكنها بعيدا عن رسائل الخطاب ودلالاته تنتج كما هائلا من القيم الجمالية ربما يكون أبرزها ذلك الحس الساخر والفكاهة العفوية التي يشحن بها عالمها ولغته السردية، فيجعل مثلا من مقولة هينة وعادية فلسفة وشكلا من أشكال الكوميديا في الرواية أقصد العبارة المتكررة في سياقات كثيرة للمحامي " لا يمكن حمل بطيختين في وقت واحد"، فهي عبارة خادعة وتملك طاقات رمزية وتأويلية عميقة برغم ما قد يبدو فيها من السطحية الخادعة، فالعبارة دالة على انشغال طويل بالمشاكل الجماعية أو القضايا العامة التي سحقت الفرد أو جارت عليه في أقسى ما يكون الجور، فكأن الحياة المصرية عبر ما مضت فيه وإليه من التحديات والحروب والمشاكل العامة قد سلبت الفرد كثيرا من حقوقه، لم يكن جمال منصور المحامي مجرد شخصية عابرة وحالة شخصية أو مجرد مأساة شخصية على مستوى من المستويات، بل هو نمط عام للإنسان المصري ورمز مطلق للفرص الضائعة ولما تم سلبه من اللذة الممكنة، لم يكن ضياع الشباب أمرا هينا، والحب المتأخر ليس وضعا طبيعيا مهما كان محفوفا باللذة واكتشاف الذات مؤقتا. 
 
إنها رواية حافلة بالجماليات الناتجة عبر مسارات كثيرة، وربما منها جماليات التأويل نفسه بما يملك من محفزات لطاقات المتلقي الذهنية والمعرفية وتحريضه على أن تكون لديه مستويات مختلفة للفهم وتأمل هذا العالم وتلك الحكايات الشخصية، والشخصيات في الرواية يبدو بعضها ظلا لبعض وفق هذا التصوير، برغم ما بينها من التفاوت والتنوع، فوالد خديجة هو نفسه يبدو قريبا جدا من شخصيات جمال، وهو الذي كان مضطرا لأن يحاسب على فاتورة والده ويسدد دين الأجيال السابقة ويستنهض مجده أو يعيده مرة أخرى، وهكذا في شكل من التأثير الدائري أو المستمر في حراكه، بما يجعل الرواية على قدر كبير من التفاعل بين عناصرها الدرامية ويجعلها في أعماقها تتوالد من نسيج اجتماعي يقوم على التناظر وامتداد الأنساق الفاعلة فيه، فالماضي بأثره في الحاضر يبدو نسقا رابطا للشخصيات وللحكايات الفرعية والرئيسية ببعضها، ويبدو عابرا للمراحل، أي ليس مقصورا على وحدة سردية بعينها داخل الفضاء السردي. 
 
وهذه الرواية كذلك فيها توظيف ذكي لوسائل التواصل الاجتماعي على المستوى الدرامي الذي تتشكل منه الحكاية وعلى مستوى الوظائف والأفعال، أو على المستوى الإنساني وأثر هذه الوسائل في تشكيل حياة الإنسان وطبعها بالسرعة والاستعجال وخلق أشكال جديدة من اللذة أو المتعة وربما خلق صراع جديد يقوم على اختلاف الأجيال علميا وثقافيا. فهذا الحب الذي يتشكل أو على الأقل تلعب هذه الوسائل فيه دورا مهما ليس هو الحب القديم، ذلك لأن الكاميرا والرسائل السريعة تجعل العالم سريع الإيقاع وشديد التوتر ومتلاحق الأحداث وفيه تقاطعات عديدة وتختفي فيه الحدود المكانية أو يتراجع فيه أثر المسافات والمساحات المكانية. بل يصبح الزمن نفسه مسيطرا عليه أو خاضعا لمحركات أخرى، وهنا تتمركز عاطفة الإنسان ومشاعره وتصبح محورا لحركة الكون، يصبح الإنسان هو الأصل أو هو القوة الأكبر ولا يمكنه أن يتنازل عما فاته من اللذة أو يفرط في حق من حقوقه المسلوبة كما كان في الماضي. هذه الرواية برغم ما تلتحف به من البساطة والسلاسة المتناهية واشتغالها على حكاية عفوية وعابرة هي واحدة من الروايات المهمة التي يتسم خطابها بذكاء شديد لأنه يستشعر سمات اللحظة الحضارية الراهنة وينصت برهافة للتحولات الثقافية والإنسانية والوجدانية الحاصلة بوصفها أثر لثورة التكنولوجيا والمعلوماتية وثورة الاتصالات. 
 
رواية "يكفي أننا معا" رواية ثرية بطبقات مختلفة من الدلالة المتوارية وتمثل النزعة الجديدة أو الراهنة في السرد الروائي وتشتغل على مقاربة حالة إنسانية عميقة ودالة وفيها كثير من المتعة والتشويق برغم كونها تتشكل مما قد يبدو مكررا أو معتادا من أسئلة الحب والقضايا الاجتماعية أو بعض القضايا العامة التي تأتي بشكل عارض أو عام، فهو عبر تقنية البحث العلمي أو الكتابة داخل الكتابة كون البطلة أو إحدى الشخصيات الرئيسة باحثة يحاول مقاربة العام من زاوية الخاص، بل يجعل هذا العام وهو مركزي في الخطاب يبدو هامشيا أو ليس في قلب الحكاية ومركزها، وهذه حيلة ذكية من حيل الخطاب السردي تجعل رسالته أكثر نفوذا لأنها تبعد العناصر المهمة عن دوائر الإلحاح الذي قد يكون فجا أو مكشوفا من المتلقي، فهذه التنحية أو التهميش لبعض القضايا والإشكالات العامة التي تقاربها الرواية يجعلها تتسلل إلى عقل المتلقي ووجدانه بنعومة ودون أن يدري. فهي شكل من إشكال الإزاحة المقصودة وجزء من استراتيجية الخطاب السردي البلاغية وجزء من ميكانيزمات التأثير وأدواته التي قلما يفطن لها كتاب الرواية العربية، ذلك لأن الإلحاح قد يكون مكروها ومكشوفا ويأتي بنتيجة عكسية، في حين يبدو تهميش بعض الأسئلة وإزاحته عن المركز أو عرضها بشكل عابر يجعلها محط اهتمام المتلقي ومثيرة لطاقات في التأمل والتأويل.
 
ولا تتوقف رحلة بحث عزت القمحاوي عن قوالب جمالية عن تطوراته في الخطاب الروائي نفسه واتخاذ نوازع جمالية متعددة ومتجددة هي بالأساس نابعة من تحولات الثقافة وتغيرات المراحل التاريخية، بل إنه يبدو غير محكوم بالنوع الروائي من الأساس ويبدو مشغولا باللعب داخل حدود الكتابة بصفة عامة التي هو أوسع من حدود النوع الأدبي، ويبدو قادرا على تمثيل الجمال الأدبي عبر صيغ كتابية مختلفة، فيكتب السرد التأمل والفلسفي والذاتي أو الأقرب لأن يكون نموذجا وامتدادا للسرد العربي القديم وفن الرسائل والمصنفات التي كان أعلام الأدب العربي القديم يجيدون فيها، وهو فهم جدير بالاحترام لمعاني الكتابة والجمال الأدبي ويبدو مغايرا لكونه متأسس على الربط بين الماضي العربي المزدهر والراهن العالمي الطامح بلا حدود، وهو ما يتمثل في تجربة كتابه "غرفة المسافرين" الذي هو كتاب سردي تأملي عن السفر فيه من اللطف والظرف والحكمة والدهشة ما قد يصعب توافره لكثير من الروايات، بل فيه من التشويق والنسج اللغوي والتطواف والحكايات وفيه من الترابط والإحكام ما قد يصعب توافره لحكاية يقصها سارد عن حياة شخص واحد، وهذه معادلة جمالية مهمة، في غرفة المسافرين يستمر نهج عزت القمحاوي في قدرته على الربط بين العالمي والمحلي، بين الأغنياء والفقراء، أن يكون قادرا على التعبير عن العجائز الذين يلعبون السيجة عند جامع القرية بعد التقاعد من أعمال الفلاحة والزرع وبين شخصيات توماس مان أو زفايج أو يوسف إدريس ونجيب محفوظ، يقارب السفر كحالة من البحث في المعرفة كما يقارب الأدب والكتاب العالميين ويقتحم العادات والسلوكيات البشرية الهينة كما يبدو مشغولا بأدوار الأنظمة والحكومات وأشكال التسلط والرقابة وقصص الحب والعشق ومغامرات الرجال والنساء في كتاب ممتد وتجربة فريدة في الكتابة الغنية بالأسئلة والتأملات ويتمتع بحبكة ولغة نادرة في إحكامها وألعابها ومجازاتها، فهو يكتب أيا كان النوع الذي يكتبه بروح شاعر جامع تبدو الجمل لديه تشكل ذاتها بذاتها أو مدفوعة لأن تتخذ هيئتها التي تريد وتشكيلها النحوي الجمالي الذي تبدو مدفوعة نحوه بلاوعي أو بوعي من هذا المؤلف الذي آمن بالكتابة بسمح لها بأن تتلبس روحه وتعيش من خلاله. 






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة