مصر مهد الحضارة والتاريخ، والتوحيد، والقيم الإنسانية، سبقت وعلّمت العالم أجمع، ففي الوقت الذي كانت الغالبية العظمى من سكان الكرة الأرضية، يعيشون في ظلمات الجهل والتصارع الوحشي، كانت مصر الفرعونية، تشع فيها شمس الحضارة والرقي.
كانت مصر ومازالت دولة حقيقية، عندما لم يكونوا، هؤلاء الذين يتطاولون اليوم في البنيان، ويتطاولون على مبادئ الإنسانية وحقوق الجوار، وحقوق الدول يشعلون بها الصراعات، والنعرات المذهبية والطائفية، تمهيدًا لنهب الثروات.
إلى الذين يحاولون نشر التطرّف، ويمولون الإرهاب، سعيًا للنيل من مصر الخالدة، كنانة الله في أرضه، أو يسعون لزعامة لا يملكون مقوماتها، هذه السلسلة من المقالات، لعلهم يعلمون من نحن ومن هم، كيف كنّا حينما لم يكونوا.
عمر مصر الدولة، أكثر من ٧٠٠ عام، مصر كانت بحضارتها، كان حكماء المصريين، يدرسون القيم الإنسانية، والأخلاق، والعلم الذي يعجز العالم حتى اليوم عن فك الكثير من شفراته.
في عصرنا المبتلى، بالظلاميين والإرهابيين، خرجت علينا صيحات المتأسلمين، المتاجرين بالدين، والإرهابيين، الذين يحاربون الحضارة، ويعادون التراث وآثار الأولين، يحرمون التصوير وفن النحت، بل ويحطمون الآثار، فكم من تراث ضاع وكام من درر هدّمت ومحيت آثارها، وليس ما فعله الداعشيون في العراق وسوريا من هدم الآثار منا ببعيد.
هؤلاء الظلاميون، لم يطالعوا الدرر المخبوءة في كنوز أجدادنا الفراعنة، حكماء مصر القديمة، مخطيء من يظن أن ما تركوه فقط ثروة مادية، ذهب وفن العمارة، ومهارات النحت، وتخليق الألوان التي تحدت الزمن.
بل هناك الأهم، وهي الثروة الفكرية والقيمية، الأخلاقية وثوابت المجتمع والحياة الإنسانية، المدقق في تاريخ الفراعنة وتراثهم الفكري والقيمي، يخرج بقناعه أنهم فراعنة مسلمون، قبل أن يبعث الرسول محمد، عليه الصلاة والسلام، وهم فراعنة مسيحيون قبل أن يبعث المسيح عيسى عليه السلام.
فتعاليم حكماء الفراعنة، التي يدعو الظلاميون اليوم لهدم آثارهم، تتفق وتعاليم الأديان السماوية، النابعة من مصدر واحد، الله سبحانه، الذي بحث عنه أجدادنا، واهتدوا إلى أن الحياة الدنيا، معبر إلى الحياة الآخرة؛ حيث البعث والحساب.
نجد ذلك في مصر الماضي حضارة العالم قديمًا، صاحبة السبق في الأخلاق الظاهرة بوضوح في تعاليم أجدادنا الحكماء: "كاجمني، وبتاح حتب، وإيبورو"، وتعاليم أمنمحات الأول لاابنه "سنوسرت" وغيرها من درر القدماء المصريين، والتى مر على كتابتها ما يقرب من خمسة آلاف سنة.
أقوال الحكماء من مصر القديمة، تكشف مدى التحضر والدين الحق، تصفع جهلاء العصر، للتدليل على ذلك أطوف بكم حول بعض تلك الكنوز الفرعونية القيمة، والعودة لتعاليم الدين الإسلامي من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، للوقوف على مدى التطابق أو التناقض، لعلكم تتذكرون ولعلهم يفقهون، فيهتدون أو يخيب مسعاهم ويعجزون عن غسل أدمغة الشباب، إليكم بعض النماذج:
أولًا: الحكيم كاي جمني:
الحكيم كاي جمني، المعروف بااسم "ميمي" من أصحاب المقام الرفيع، تقلد منصب وزير في بداية عهد الملك تيتي، أول ملوك الأسرة السادسة، وكان كاجمني يحمل لقب، المشرف على مدينة "هرم تيتي" ولهذا تقع مصطبته قريبة من هرم تيتي في جبانة سقارة.
تعاليم "كاي جمني"، هي أحد نصوص أدب الحكمة المصرية القديمة، التي تضمنتها بردية "بريس"، وتأتي بعدها تاريخيًا تعاليم بتاح حتب، التي يرجع تاريخها إلى بتاح حتب، أحد وزراء عهد الملك جد كا رع 2414 - 2375 قبل الميلاد. تلك التعليمات هي أقدم ما نعرفه في تاريخ البشرية عن الأخلاق والسلوك.
وقد ترك لنا الحكيم كاجمني درة خالدة، تحدث فيها عن محاسن الأخلاق التى يجب أن يتحلى بها الصغار والكبار، وآداب الطعام، والسلوك العام، وأدب الحوار وحسن معاملة الزوجة، وهذه الحكم ليس بينها وبين ما ورد فى كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، من شىء، وليس هذه من قبيل الصدفة، فالسابقون من القدماء كانوا يرسل إليهم الرسل والأنبياء ليرسوا فيهم مواطن الأخلاق، ويدفعوا عنهم ويلات البعد عنها.
وهذه الحقيقة نستشفها من قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، إذن مكارم الأخلاق من لدن آدم، ولكنها لن تتم إلا بسيدنا محمد، ولن نستطرد فى هذه النقطة كثيرًا لننتقل معًا إلى تعاليم الحكيم كاي جمني أو كاجمني.
يقول الجد كاجمني:
"والمتواضع يبقى صحيحًا، ومَن يستقِمْ في معاملته يُمدَح، وتفتح الخيمة للمتواضع، والحَذِر في كلامه يُفسح له مكان رَحْب، ولكن السكين ترهف لمَن يحيد عن الصراط...".
وفي هذه الحكمة، يحثنا على التواضع في قولين: "والمتواضع يبقى صحيحًا، وتفتح الخيمة للمتواضع". وها هو القرآن الكريم في مواضع متعددة يحثنا على التواضع وعدم الااستكبار، ومنها قوله تعالى ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18].
﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة: 15].
وتأتى السنة الشريفة، للحث على هذا الخلق الرفيع فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال:
(ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله). رواه مسلم.
"ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"، هو نفسه ما تضمنه قول "كاجمني": وتفتح الخيمة للمتواضع.. أى يهطل عليه خير الله من رفعة وفتح أبواب الخير من الله له.
ثم ينتقل الحكيم، كاجمني، إلى الحديث عن خطورة الكلمة.. فيقول: والحذر في كلامه يفسح له مكان رحب... ".
وها هو القرآن الكريم يُحدثنا عن ثمار الكلمة فيقول.. جلاله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}. [إبراهيم:24-26].
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}. [البقرة:83].
ويتحدث القرآن الكريم عن المكان الرحب، الذي ذكره، كاجمني، في قوله تعالى: "تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها". ثم يتحدث النبي، صلى الله عليه وسلم عن المكان الرحب في قوله: «إنّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم».
ثم ينتقل كاجمني، بعد ذلك، للحديث عن آداب الطعام فيقول: "إذا جلستَ مع أناس كثيرين (للأكل) فانظر إلى الطعام بعدم مبالاة، وإنْ كنتَ تشتهيه، فإن ضبط النفس لا يكلِّف الإنسان أكثر من لحظة، وإنه لَمِن العار أن يكون الإنسان شرهًا، فقدح ماء يروي الغُلَّة، وإن كان الفم مفعمًا فإن ذلك مما يقوي القلب، والشيء الطيب يحل محل الطيب (إن لونًا بسيطًا جيدًا يغنيك عما هو أحسن منه)، كما أن القليل يحل محل الكثير، وإن الرجل الشره تعس لداعي جسمه وإذا جلست مع إنسان شره فلا تأكلنَّ إلا بعد أن يفرغ من وجبته، وإذا جلست مع سكير فلا تأخذنَّ (من الشراب)، إلا بعد أن يشبع شهوته، ولا تتكالبنَّ على اللحم في حضرة.. فخُذْ حينما يقدم لك ولا ترفضنها، وفكِّر في أن ذلك يريحه".
فيقول كاجمني.. والشيء الطيب يحل محل الطيب، وها هو القرآن يقرر هذه القاعدة فيقول تعالى: "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ". ( 4 المائدة).
ثم ينتقل كاجمني إلى الحديث عن النهي عن الإكثار من الطعام والشره فيه فيقول: "وإنه لَمِن العار أن يكون الإنسان شرهًا، فقدح ماء يروي الغُلَّة، وإن كان الفم مفعمًا، فإن ذلك مما يقوي القلب، والشيء الطيب يحل محل الطيب (إن لونًا بسيطًا جيدًا يغنيك عما هو أحسن منه)، كما أن القليل يحل محل الكثير، وإن الرجل الشره تعس لداعي جسمه".
وتأتي السنة النبوية المطهرة، فتقرر هذه القاعدة فيقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم (ما رواه المقداد بن معد يكرب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلًا فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه". رواه الترمذي وحسنه.
ويتضح لنا جليًا، من خلال ما ذكرنا من تعاليم الحكيم كاجمني، أنها لا يفصل بينها وبين شريعة الله من شيء، فيا ليت الشباب يقرأون كي تتحصن عقولهم ضد دعاوى الإرهاب السامة، التي تريد أن تمحو حضارة، طالما اشتاقت دول العالم أن يكون لديها حجر منها، وللقاء بقية مع حكيم آخر في الحلقة المقبلة، إن شاء الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة