استقبل «إبراهيم باشا» ابن محمد على وقائد جنرالات جيشه، قائلا:«أيها السادة، أستقبلكم فى خيمة سليمان»، ثم ألقى بنفسه فى حضن صديقه «سليمان» وضمه إلى صدره، وقبل جبهته وفمه وهمس وعيناه ممتلئين دمعا قائلا:«أُقبِل اليوم جنديا»، وفى المساء وحسب رواية «الفرعون الأخير- محمد على»، تأليف جيلبرت سينويه، ترجمة عبدالسلام المودنى:«جلس على الطاولة التى كانت قبل قليل بمثابة مكتب للمنهزم، وكتب إلى والده محمد على باشا: أعلمكم أنى هاجمت فى نصيب، وفى أقل من ساعتين، أخذت من العدو مدفعيته وذخيرة الحرب، وأخضع الجيش التركى تماما، ولم أتوقف إلا فى قونية، من أجلكم يا أبى، استمتعوا لسبعة أيام، ثم أعلنوا هذا الخبر السار للعامة.
كانت «خيمة سليمان» فى الأصل خيمة حافظ باشا، قائد الجيش التركى فى معركة «نصيب» أو «نزيب» يوم 24 يونيو، مثل هذا اليوم 1839، وهى واحدة من المعارك العسكرية الكبرى فى القرن التاسع عشر، التى انتصر فيها الجيش المصرى على نظيره التركى، وحسب عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على»:«نصيبين بلدة واقعة فى الأراضى العثمانية لكنها على مسيرة ساعات قليلة من الحدود التركية السورية، وكانت سورية وقتئذ تحت سيطرة محمد على، وصممت تركيا على استعادتها»، وفى هذا السياق، وقعت هذه الحرب التى أذاق فيها إبراهيم باشا الأتراك كأس مرارة الهزيمة، وتركت آثارها العميقة على التوازن الدولى وقتئذ.. يذكر
«سينويه»:«بعد يوم واحد من هذه المعركة، ستكون لمواقف القوى الغربية نتائج غير محسوبة، سواء على مصير مصر والإمبراطورية العثمانية، أوعلى مصير الغرب.
قصة هذه المعركة تبدأ من حيث رسالة بعث بها «إبراهيم» فى منتصف مايو 1839، وكان موجودا فى الشام، إلى والده فى القاهرة عن تقدم الجيش العثمانى فى اتجاه حلب، ونصت حسب سينويه:الأتراك سيتقدمون غدا، وسيسيئون معاملة شيوخ القرى الذين سيجبرون على إخلائها، ومن شأن هذا النهج أن يخلق تمردا فى المحافظات الموجودة تحت سلطتنا، ومنعا لإرجاع بدء الحرب لنا، فإنى لن أقوم بأى شىء قبل أن أحصل على ردكم على هذه الرسالة.
رد «الباشا» على ابنه:«لقد تجاوز اعتداء خصومنا كل الحدود، وإذا مابرهنا على مزيد من الصبر، لن نتمكن من إيقافهم، لأنهم سيحدثون الفوضى شيئا فشيئا، ومع وصول هذه الرسالة، هاجموا القوات التى اقتحمت أراضينا، وبعد أن تطردوها توجهوا إلى جيشهم الكبير الذى ستواجهونه فى الحرب، وإذا ما حالفنا الحظ بعون الله دون اختراق خليج مضيق كولك بوغاز، اقصدوا مالاطيا مباشرة، وكاربون، وأورفا وديار بكر.
هكذا جاء «التوجيه الاستراتيجى» من الباشا الكبير إلى الباشا الابن، وفيما كان الأفق يبشر بمعركة كبرى، كانت فرنسا تبذل جهودها من أجل نزع فتيل الأزمة، لكنها فشلت، وأخيرا وقف الجيشان وجها لوجه يوم 24 يونيو فى سهل «نصيب»، ويذكر الرافعى:«كان الجيش التركى يـتكون من 38 ألف مقاتل ويحتل مواقع حصينة، أما الجيش المصرى فكان عدده أربعين ألف مقاتل، فالجيشان كانا متقاربين، لكن الجيش المصرى كان يفوق التركى فى النظام وبراعة القيادة، مما أكسبه الثقة التى بلغت حد قيام «سليمان باشا» بالمرور على رؤساء ألوية الجيش المصرى، الذى يقوده هو قائلا لهم حسب سينويه:«أيها السادة سنلتقى بعد ثلاث ساعات فى خيمة حافظ باشا، ونشرب القهوة بها»، والمدهش أنه بعد ساعتين فقط تحققت النبؤة، حيث دخل جميع قيادات الجيش المصرى إلى «خيمة حافظ» التى كانت مثل قصر، ومزينة كبهو إمبراطور.
عند نهاية القتال، ترك الجيش التركى أزيد من مائة مدفع فى ساحة المعركة، واختلفت الأرقام بخصوص الخسائر، ففيما يذكرسينويه أن متوسط التقديرات يشير إلى خمسة وأربعين ألف جندى عثمانى مقتول، وثمانية آلاف وخمسمائة أسير، وفى الجيش المصرى كان العدد غير مؤكد، يذكر «الرافعى» أن خسائر الترك بلغت نحو أربعة آلاف قتيل وجريح، وأسر من 12 ألفا إلى 15 ألفا، واستولى المصريون على نحو عشرين ألف بندقية و44 مدفعا، واستولوا على خزانة الجيش وكان بها ما قيمته ستة ملايين فرنك.
يذكر دكتور عبد الرحمن زكى فى كتابه «التاريخ الحربى لعصر محمد على الكبير»:«أصبح إبراهيم بعد معركة نزيب، سيد الأناضول على الإطلاق، وسار الطريق قبالته مفتوحا إلى استانبول، وقبلما يبلغ خبر هزيمة الجيش العثمانى مسامع السلطان محمود كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة