فى التاريخ الإسلامى نساء استطعن أن يحفرن أسماءهن بحروف من نور ونار، تمردن على أوضاعهن، فاستجاب لهن التاريخ، وتحول على أيديهن إلى دراما حية لا تموت ولا تُنسى، تظل أحداثها تتردد عبر العصور، ما بين ملهاة ومأساة، لتصبح عبرة لمن يعتبر.. من هؤلاء كانت شجرة الدر، الجارية التي صنعت مجدا وكان لابد أن تنتهي حياتها بمأساة.
لم يتفق المؤرخون على أصلها قيل إنها تركية، وقيل بدوية، وقيل من خوارزم، وقال البعض: لا بل أرمينية، ومع ذلك فقد اتفق الجميع أنها لعبت دورا مشهودا وخطيرا في لحظة مفصلية من تاريخ مصر الإسلامية، قلبت فيها بحنكتها ودهائها ميزان حرب صليبية شرسة من هزيمة محتملة، إلى انتصار مدوٍ، انتهى بهزيمة مذلة للجيوش الصليبية، وأسر قائدها لويس التاسع عشر في المنصورة، كما أدى هذا الانتصار إلى نهاية حكم الدولة الأيوبية و بداية حكم دولة المماليك، وإلى أن تصبح شجرة الدر هي أول من يتولى الحكم فيها، وإن لم تتجاوز فترة حكمها ثمانين يوما.
لم تكن شجرة الدر سليلة حسب ونسب، وإنما كانت جارية لدى الصالح نجم الدين أيوب، وإن كانت العلاقة بينهما لم تكن مجرد علاقة بين سلطان، وجارية، حيث أدار جمال شجرة الدر وذكاؤها وحسن تدبيرها للأمور رأس نجم الدين منذ اشتراها، الأمر الذي جعلها تصاحبه في رحلة صعوده إلى العرش وحتى وفاته.
شهدت شجرة الدر فترات ضعف الملك وانكساره وقوته، ما جعله يعتقها ويتزوجها، لتصبح أمًا لابنه" خليل" بل وما جعله يقيمها نائبة له في إدارة شئون الحكم عندما يغيب عن البلاد، ذلك منذ تولى العرش عام1240 م، وحتى وفاته عام 1249، خاصة وقد توفي في لحظة حرجة جدا أثناء المعركة، بعد أن احتل الصليبيون دمياط بسهولة، وبدأوا في الزحف لاحتلال المنصورة ومنها إلى القاهرة، ثم بيت المقدس.
لوحة عن شجرة الدر
أخفت شجرة الدر خبر وفاة السلطان، حتى لا يتسبب ذلك في إضعاف معنويات الجند، وزعزعة ثقتهم في أنفسهم، وأدارت هي المعركة بمعاونة قواد الجيش من المماليك، فقامت بنقل جثمان الملك سرا من المنصورة حيث كان يعسكر، إلى القاهرة، واستدعت " توران شاه" ابنه، لتولي الأمر، وأجرت الأمور كما لو كان السلطان لم يزل حيا. ونجح المسلمون في هزيمة الصليبين وأسر قائدها.
لم تكد الحرب تنتهي حتى بدأ "توران شاه" يطالب بحقه كاملا في السلطنة، الأمر الذى نشب عنه خلاف مع قادة الجيش فدبروا له، فقتلوه، وبالطبع لم تكن شجرة الدر بعيدة عن ذلك .
هكذا آلت مقاليد الحكم لشجرة الدر وحدها، لتصبح أول ملكة في دولة المماليك تجلس على عرش مصر والشام، غير أن الأمر لم يستمر أكثر من ثمانين يوما، فبينما كانت تحاول إحكام قبضتها على شئون البلاد، إذا بقوى المعارضة تثور ضدها: وخاصة الشيوخ الذين استنكروا أن تجلس امرأة على العرش، و يرون في ذلك مخالفة للشرع .. أما ما حسم الأمر فكان رفض الخليفة العباسي المستعصم لاستمرارها على العرش، و مطالبته بتولي رجل الحكم بدلا منها، وهو ما اضطرها إلى أن تتزوج من أحد أمراء المماليك وهو عز الدين أيبك، وأن تتنازل له عن العرش.
لم تكن شجرة الدر من النساء اللائي يمكن أن يرضين بدور الزوجة، وقد ذاقت لذة الحكم، لذلك فقد سعت لمشاركة أيبك أمور السلطنة، بل وعلى فرض وصايتها عليه، وعلى الرغم من أنها نجحت في ذلك كثيرا، فإن ما حدث بعد فترة من زواجهما أكد عكس ذلك، وكشف عن أن أيبك لم يكن هو الرجل الذي يستسلم بسهولة لسطوة زوجته، وإن كانت شجرة الدر نفسها، فقد سعى لإحكام قبضته على الحكم، وراح يتخلص من منافسيه، بل أقدم على الزواج من امرأة أخرى وهي ابنة "بدر الدين لؤلؤ" صاحب الموصل.
عجل ذلك كله بنهاية أيبك، حيث لم تكن امرأة مثل شجرة الدر، صاحبة الصولجان لتقبل التسليم بسهولة، و أن يجردها أيبك من امتيازاتها، فضلا عن أن يتزوج عليها، ما جعلها تتآمر عليه وتقتله، الأمر الذي عجّل أيضا بمقتلها، وقد قيل أن مماليك أيبك تآمروا عليها فقتلوها انتقاما لسلطانهم، كما ذكرت بعض كتب التاريخ أن " أم علي " زوجة أيبك هي من قامت بقتلها بمساعدة جواريها، ضربا بالقباقيب، لتنتهي حكاية جارية استطاعت أن تسجل اسمها في صفحات التاريخ، بحروف من نور ونار .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة