قبل رحيله بأيام، تلقيت اتصالا من «فتحى الديب» رجل جمال عبدالناصر السرى ضابط.. كانت الاتصالات بيننا متواصلة منذ أن ذهبت إليه لأول مرة عام 2000 فى مسكنه بشقة بسيطة بمصر الجديدة.
كنت أداوم على زيارته طبقا لطلبه، وبقيت مكالمته الأخيرة محفورة فى ذاكرتى: «الأيام دى أنام وأصحى، وألاقى ناس معايا بتكلمنى وأكلمها، وأشوفها بتمشى قدامى هنا زى الرئيس جمال عبدالناصر، أحمد بن بيلا، أحمد بهاء الدين، عبدالسلام عارف «الرئيس العراقى من 9 فبراير 1963 إلى 13 أبريل 1966»، وياسر عرفات، ورشيد كرامى، إبراهيم يزدى «أول وزير خارجية لإيران بعد الثورة التى قادها الخمينى عام 1979».. وقال أسماء كثيرة أخرى.
بدا من مكالمته أنه يعايش قيادات للمنطقة منذ منتصف القرن العشرين، وكان هو مهندس تواصلها مع مصر بقيادة جمال عبدالناصر، من خلال توليه مسؤولية الشؤون العربية فى رئاسة الجمهوية، ويروى فى كتبه أسرار ذلك.. يذكر فى كتابه «عبدالناصر وتحرير المشرق العربى» أنه كان ضمن ثمانية أسسوا جهاز المخابرات العامة برئاسة زكريا محيى الدين عام 1953، ويكشف فى هذا الكتاب وقائع مذهلة عن أدواره السرية فى سلطنة عمان، ومنطقة الخليج وسوريا ولبنان والعراق، أما دوره فى ربط الثورة الجزائرية بمصر منذ اندلاع كفاحها المسلح من عام 1954 فحكى قصته فى كتابه «عبد الناصر وثورة الجزائر»، وفى كتابيه «عبدالناصر وثورة ليبيا» و«عبدالناصر وثورة اليمن» يكشف أسرار علاقة مصر بالثورتين ودوره فيهما.. أما كتابه «عبدالناصر وثورة إيران»، فيكشف فيه دوره مع المعارضة الإيرانية أثناء حكم شاه إيران فى ستينيات القرن الماضى، وذلك ردا على دعم الشاه لإسرائيل، وكان إبراهيم يزدى أول وزير خارجية لإيران بعد الثورة عام 1979 ضمن الذين تواصل معهم من هذه المعارضة.
أما كتابه «عبدالناصر وعرب المهجر» فهو وثيقة مجهولة، ويكشف فيه جولته السرية فى دول أمريكا الجنوبية لربط العرب المهاجرين فيها بدولة الوحدة المصرية السورية «22 فبراير 1958 إلى 28 سبتمبر 1961».
كان اسمه فى جواز السفر مستعارا «محمد فتحى إبراهيم» وبدأ جولته فى النصف الثانى من يونيو 1959، وعاد يوم 8 أغسطس 1959 وشملت البرازيل والأرجنتين وشيلى والمكسيك وبيرو وبنما، وفى نهايتها وقعت محاولة لتأميم قناة بنما أسوة بتأميم قناة السويس عام 1956، لكن أمريكا قضت عليها، وتحدثت الصحف الأمريكية عن «جاسوس عبدالناصر فى بنما»، وكان وقتئذ فى الطائرة عائدا إلى مصر دون أن يعرف أحد حقيقته، وبعد وصوله قدم تقريرا إلى عبدالناصر عن مهمته النادرة والمجهولة.
ظلت قصة تأسيسه لإذاعة «صوت العرب» فى 4 يوليو 1953 مجهولة حتى كشف عنها فى كتابه «عبدالناصر وتحرير المشرق العربى»، وصارت أقوى الإذاعات العربية وقت أن كانت الإذاعات أقوى الأسلحة الإعلامية تأثيرا فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، ووصلت برئاسة الإذاعى الكبير أحمد سعيد درجة تأثير بالغ حد أن مواطنين عربا كانوا يسألون فى بلادهم عند شرائهم أجهزة «الترانزستور»، ما إذا كان يأتى بصوت أحمد سعيد أم لا؟.. وأوكل إليه عبدالناصر مهمة تأسيس تنظيم الطليعة العربية.. وكشف لى أنه أخفى وثائق التنظيم حين تم القبض عليه مع رجال عبدالناصر فى قضية 15 مايو 1971 وسجنهم، ثم سلمها قبل وفاته إلى الدكتورة هدى جمال عبدالناصر.
كان عمره 48 عاما «مواليد 1923» وقت القبض عليه، وحسبما يكشف فى كتابه «عبدالناصر وثورة ليبيا»: «فى الساعة الخامسة من بعد ظهر يوم التاسع عشر من مايو 1971، فوجئت بحضور ضابط مباحث عامة سبق له التعاون معى لمنزلى، ليطلب منى اصطحابه إلى مبنى مستشفى كلية الشرطة، وحينما استفسرت منه عن السبب أخبرنى والدموع فى عينه أنه صدرت إليه الأوامر لاعتقالى، وتحديد إقامتى فى مبنى مستشفى كلية الشرطة».. يتذكر أن الضابط اصطحبه إلى المبنى المذكور ليجد عددا من رؤساء وأعضاء منظمة الشباب بالاتحاد الاشتراكى سبقونى.. يؤكد: «اقتنعت بأن الهدف الرئيسى من اعتقالنا هو التخلص من كل من عاون جمال عبدالناصر بكل الصدق والوفاء، ولم تمض ثلاثة أيام حتى فاجأتنى الأزمة القلبية الثانية، فنقلت إلى مستشفى المعادى تحت الحراسة، ولأقضى بها سبعة أشهر تحت العلاج والتحقيق لإلصاق تهمة «بلبلة الأفكار ضد اتفاقية إقامة اتحاد الجمهوريات».
يعلق الديب: «كانت التهمة موضع تندر كل من استمع إليها متعجبين كيف أكون مبلبلا للأفكار ضد الاتفاقية التى أعددتها بنفسى وبقلمى..وتمت المحاكمة لتبرئ ساحتى.. وعدت إلى منزلى مرفوع الكرامة وتوافد العديد من المناضلين العرب لتهنئتى».
فى يوم 7 فبراير، مثل هذا اليوم، 2003 رحل دون أن يترك أبناء ولا ثروة مالية، فالرجل عاش على معاشه هو وزوجته، لكن وحسب وصف أحد تلاميذه الكاتب والإعلامى والمترجم «محمد الخولى»: «له فى كل قطر عربى أبناء، ويستحق تمثالا فى كل عاصمة عربية وفاء لدوره فى تحريرها».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة