القارئة نورا عبد الفتاح تكتب: الصعيدى والأوروبية

الخميس، 25 يوليو 2019 02:00 م
القارئة نورا عبد الفتاح تكتب: الصعيدى والأوروبية صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كنت أدرس فى كلية الألسن جامعة عين شمس فى الفرقة الثالثة؛ هنا كان يعلمنا أستاذنا، واحد من هؤلاء المصلحون الذين يقضون ساعات على مدار الأيام يقوّمون فى سلوكياتنا فى أمور خارجة عن الدراسة مثل الالتزام الشديد فى المواعيد، ضرورة زيارة معرض الكتاب كل عام، خفض أصواتنا ورفعها عند الإجابة فقط، إجبارنا على احترام محاضراتنا وأساتذتنا فهو لا يسمح لأى طالب أو طالبة بالدخول بعد دخوله ولو بثانية واحدة.

لا يكف عن النصيحة المباشرة وغير المباشرة لبعض الطالبات اللاتى تبالغن فى وضع مستحضرات التجميل أو يتحررن بشكل زائد فى لباسهن،  لا يكف عن مطالبتنا بعدم الكتابة فى الكتاب بقلم جاف أو ثنى أى ورقة منه،  ويحرص كل الحرص على أن نقوم جميعا بتجليد الكتاب، وكان يتشدد فى أمور على هذا النحو.

ذات يوم  قالت له إحدى الطالبات غير المهذبات "أنا حرة فى كتابى، أنا دفعت فلوسه" فأخرج من جيبه ثمن الكتاب وأعطاها "فلوسها" وأخذ كتابه.

كان دكتور فلان من أقصى الصعيد بشرته سمراء يرتدى ملابس رسمية طوال الوقت أحيانا ألوانها غريبة بعض الشىء لكن عليه نطق ألمانى  يشيب له الوليد فى بطن أمه.

كان محترفا ومميزا بشدة، كان يضع لنا فى الجدول محاضرة له وحده يوم إجازتنا تستغرق النهار، وكنت آتى من المعادى حتى العباسية آخر جامعة عين شمس بلا ذرة من الضيق لأنى كنت أعشق محاضراته وأعشق حربه الدائمة ضد الخطأ، ودفاعه المستميت عن المبادئ السليمة دون ملل أو كلل، لم أجد أحدا يحبه غيرى، كان الجميع يسخر منه ولا يصدق أحدا أن هذا النموذج مثاليا ومناسب لأستاذ الجامعة بمبادئه، التى كانت تخنقهم بدورها وتصيبهم بشىء من الضغط النفسى، لكنى لم أُخف يوما أننى حتى ولو لم يعجبنى تدقيقه الشديد إلا أننى أحترم التزامه بالإصلاح على طول الخط.

 

كان من بين أساتذتنا أيضا أستاذة ألمانية الجنسية؛ بفكر الشعب الأوروبى الذى يتغاضى عن كل شىء ويتنازل طالما الأمر لا يمسه بسوء بشكل مباشر، لا يعنيها من يدخل متأخرا أو ما يحدث فى كتابها مادامت تسلمت ثمنه، جميلة، أنيقة، ممشوقة القوام، تأتى وتذهب فى مواعيد محاضراتها فقط، لا تطالبنا بأكثر من الحد الأدنى من واجباتنا، فنحن بالنسبة لها طلبة وطالبات وهى أستاذة فى الجامعة وانتهى الأمر عند هذه النقطة.

أما دكتور فلان فلم يكن الأمر بالنسبة له كذلك على الإطلاق.

هل اتضحت لك الصورة الآن؟

هل اتضح لك الفرق الذى أبغى توضيحه بين الأستاذ المصلح الذى "على عينى أنى لا أذكر اسمه" وأقول عنه دكتور فلان وبين الأستاذة الأخرى التى للأسف نسيت اسمها مع هذه السنوات، وحتى لو كنت تذكرت اسمها فبالطبع لن أذكره فى مقال.

سأوضح لك بمزيد من التفصيل بمثال آخر.

كنت دائما أنتظر صديقاتى أثناء الذهاب إلى الكلية، عند محطة مترو الأنفاق (منشية الصدر) لكن فى أيام محاضرات هذا الأستاذ كنت لا أنتظر أحدا وأذهب حتى أدخل قبل وصوله، خوفا من منعى من الدخول.

فى إحدى المرات التى لا أذكر تفاصيلها انتظرت صديقاتى، وصلنا فإذا به قد دخل وأغلق الباب، والويل لنا !

نظر إلىّ كل المنتظرين فى الخارج قالوا لى (جربى كده تدخلى أنتِ الأول يمكن يرضى) وذلك بالطبع على خلفية دفاعى الدائم عنه وكأنهم يقولون لى : (مش هو ده اللى بتدافعى عنه لوحدك، اتفضلى بقى اتصرفى وورينا شطارتك، ورينا يستاهل دفاعك ولا خسارة فيه).

فطرقت الباب وفتحت قبل أن يجيب أو يفتح وأنا أمدّ يدى وكأننى أستأذنه وأتوسل إليه، وتحدث المعجزه التى لم نصدقها جميعا؛ وافق على دخولى ومعى كل زملائى الذين كانوا فى الخارج.

كان حدثا جللا جعل الكثيرون من زملائى يستوقفوننى فى الكلية فى عدة أوقات يسألون (هو أنتِ اللى دكتور فلان دخلك)؟

لقد كان يعلم هذا الأستاذ أننى وعلى مدار 5 فصول دراسية فى ثلاث سنوات متتالية لم أتأخر يوما، فلا داعِ أن يرفض عذرى الأول والأخير.

فهو إنسان ليس متشددا أو غبيا أو أعمى البصيرة كما كان يبدو لبعض السطحيين.

فى نفس العام وفى الفرقة الثالثة حدثت لى وعكة صحية شديدة قمت على إثرها بإجراء جراحتين فى وقتين متقاربين، وحتى انتهت هذه الفترة كنت أذهب إلى الكلية وبالتزام شديد، حتى تعبت ذات يوم بشدة فطلبت من صديقتى الجالسة بجوارى أن تخبره بأننى أريد مغادرة المحاضرة، لكنى وجدت نفسى لا أستطيع القيام فقام هو بإيقاف المحاضرة وطلب من زملائى الشباب أن يأتى أحدهم لحملى ورشح أكثرهم تدينا إمعانا فى الحرص.

وطلب منهم الذهاب بى إلى عيادة الكلية وخرج معنا إلى الخارج وأدخلنا إلى غرفة مكتبه إلى أن يصل المصعد وأُلغيت المحاضرة وانتهت على هذا الحال، وبعدها أخذنى أصدقائى إلى المستشفى التى كان يعمل بها والدى،  والله وحده الأعلم ما معنى ضياع محاضرة عند هذا الأستاذ.

فى هذه الأثناء كنا فى إحدى محاضرات الأستاذة الألمانية الجميلة بأناقتها وقوامها وتغاضيها الدائم عنا جميعا.

كنا نجيب كلا حسب دوره  فى الجلوس، عندما جاء دورى لم أكن على أى قدر من التركيز فلم أستطع الإجابة، سألتنى أن أذكر لها أين السؤال الذى هو دوره؟

وللحق لم أكن أدرى مكانه أيضا من الأساس من شدة الإعياء فقالت لها إحدى صديقاتى إنها مريضة، فطلبت منى مغادرة المحاضرة وطُـردت من المحاضرة لأول مرة فى حياتى، لأننى لم أُجب لها سؤالا مرة واحدة.

فهى بأناقتها وأوروبيتها لم تعذرنى لمرة واحدة، أو تذكر أننى فى العادة أجيب وأتفاعل معها بشدة، وحكمت على من خلال موقف أوحد.

أما أستاذ الأساتذة المصلح، ذى المبادئ المستعصية على الخطأ فلقد عذرنى للمرة الأولى والأخيرة حينما تأخرت، لأنه يعلم جيدا أننى دائما ما كنت ملتزمة، فلربما حدث ظرف طارئ لمرة فلا داعى للتشدد ولا ضرر من تقبل العذر، وتركنى أدخل  وهو يعلم أننى على دراية تامة أننى لو كررتها فلن يُسمح لى بالدخول.

وكما خرج أصدقائى يسألون متعجبون فى المرة السابقة (هو انتِ اللى دكتور فلان دخلك ؟ ) أصبح السؤال هذه المرة ( هى إزاى طلعتك بره مع انها عارفة انك شاطرة ) ؟

ولكنى لم أتعجب لأننى كنت أعلم الفرق.

هل لاحظت الفرق ؟

ويظل المصلح منبوذا أينما حلّ ونزل، دائما حديثه ثقيل وظله ثقيل واسمه ثقيل وتواجده ثقيل، بينما المتنازل المتغاضِ المفرّط هو المحبوب اللطيف خفيف الظل.

أثبتت التجارب كلها بكل الأدلة أن صاحب المبادئ المصلح هو من تعتمد عليه، تلجأ إليه بعد الله، تسأله النصيحة، تطلب منه المساعدة، ينشغل بصلاح العالم بينما ينشغل المتغاضِ بإصلاح العشرة سنتيمترات المحيطة به إن أمكن.

وأما المتنازل فلا يُلجأ إليه ولا يُسأل المساعدة ولا يكون عجبا من تفريطه أو سوء فهمه وتقديره مثلما فعلت الأوروبية!










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة