هل تعلم أن للبشر قواميس؟! فلكل إنسان قاموس في حياته، يسير عليه كالمنهاج، وهذا القاموس يحوي مجموعة من الكلمات والمعاني، قد تزيد مع الأيام أو تقل، ولكنه في النهاية يسير في حياته، ومعه هذا القاموس، ولكنه ليس مكتوبًا، وإنما محفورًا في عقله، سواء الواعي أو الباطن.
بالمناسبة، لم يكن هذا الموضوع هو فحوى مقالتي، بل كنت بالفعل قد كتبت مقالاً بعنوان آخر، ولكن أثناء إجراء حوار هاتفي بيني وبين إحدى صديقاتي، تحدثت معي عن إنسانة، أعلم تمام العلم أن الكلمة التي نعتتها بها صديقتي، ليس لها أدنى وجود في قاموس حياتها، وهنا وجدت نفسي أسألها لاإراديًا، وهل هذه الكلمة لها جدوى عندها، أو تستعملها في مفردات حياتها، فصمتت صديقتي للحظات، ثم ضحكت بسخرية، وقالت: "الحقيقة لا".
ومن هنا قررت أن أغير موضوع المقال، ربما لأنني اكتشفت أن كل إنسان لديه مفردات، يستعملها لاإراديًا في حياته، حتى ولو لم يكن بلسانه، وإنما هذه المفردات جزء لا يتجزأ من كيانه، مثل "الرومانسية"، فهناك أشخاص تضع هذا المعنى نُصب أعينها، وتسير عليه في كل مفردات حياتها، وكذلك "الاحترام"، فأحيانًا تقابل أشخاصًا تجد أن هدفهم الأول والأخير أن تخرج من حوارك معهم، وأنت تردد: "إنه حقًا شخص محترم"، وكثير من المفردات الإيجابية التي تجدها تعيش بداخل البشر، في حين أنك أيضًا تجدها لا وجود لها عند الكثيرين، فهناك أشخاص لا تؤمن بكلمة "الحب"، بل ويسخرون ويستهزئون منه بشدة، وغيرهم لا يؤمن بكلمة "المثالية"، ويعتبرها نوعًا من أنواع البلاهة والسذاجة، والبعض الآخر تستفزه بشدة كلمة "الصداقة"، ويظن أنها أصبحت موضة قديمة، عفا عليها الزمن، وهناك أيضًا أشخاص لا يسمحون لأنفسهم بالانغماس في كلمة "المادة والمصلحة"؛ لاستشعارهم أنها تنتقص من إنسانيتهم، وآخرين ليس في قاموسهم الحياتي كلمة "الخيانة"، لدرجة أنهم لا يُصدقون أنهم قد يكونون ضحايا لهذه الكلمة في يوم من الأيام.
ولكن المُدهش أن هناك أشخاص تُوجد كلمات هي أساس حياتهم، والمنهج الذين يسيرون عليه بلا وعي، ولكنهم على الرغم من ذلك، يظنون أن تلك الكلمات منبوذة من قبلهم؛ والسبب ببساطة شديدة أنها بالفعل كذلك، فهي كلمات لا تترك سوى الصدى السيئ لدى أي إنسان، ولكن الواقع أنهم يُنفذون مفرداتها يوميًا وتلقائيًا، ورغم ذلك يرفضون أن تُلصق بهم هذه الكلمات، مثل "الغدر"، و"المكر"، و"النفاق"، و"الكذب"، و"الرياء"، فهل يُوجد إنسان سويّ، مهما بلغت جرأته، يستطيع أن يُقر أنه يتسم بأي صفة من هذه الصفات؟!، بالطبع "لا"، ولكن السؤال يا سادة، لو أن هذه الكلمات لا يُوجد شخص يُؤمن بها، أو يتصف بها على وجه البسيطة، فلمن خُلِقَتْ هذه الكلمات، ولماذا دخلت في جميع القواميس، وبكل اللغات والمُفردات؟!
وأخيرًا، فعلينا أن نعترف أن عُقولنا وقُلوبنا تحوي قاموسًا، ولكنه ليس قاموسًا جامعًا مانعًا، وإنما هو قاموس ذاتي جدًا، لا يعترف إلا بالكلمات التي يُنفذها صاحبها، علاوة على قدرة هذا القاموس على التجميل بشكل رهيب، فهو يُغير الكثير من معاني الكلمات؛ حتى لا يجرح مشاعر صاحبه، فلا مانع من استبدال كلمة "الغدر" بـ"الدهاء"، والمكر بالذكاء، والنفاق بالمجاملة، والكذب بالتجمل، والرياء بالذكاء الاجتماعي، فالمُهم هو إرضاء الزبون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة