«الآن يصبح فى إمكاننا أن نتطلع إلى المستقبل.. قبل الآن لم يكن فى مقدورنا أن ننظر إلى أبعد من مواقع أقدامنا، فلقد كنا بعد النكسة مباشرةً على حافة جرف معرض للانهيار فى أى وقت، وكان واجبنا فى ذلك الظرف يحتم علينا - قبل أى شىء آخر - أن نتحسس طريقنا إلى أرض أصلب تتحمل وقفتنا، وأرض أرحب تتسع لحركتنا».. هكذا بدأ جمال عبد الناصر بيانه يوم 30 مارس - مثل هذا اليوم 1968.
هو البيان المعروف تاريخيا باسم «بيان 30 مارس»، وحسب الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى برنامجه «تجربة حياة - قناة الجزيرة: «كان تصورا لمستقبل يجىء وليس فيه عبدالناصر، وأنا سمعت منه كثيرا أن ميدان القتال سيعلم جيلا جديدا، وإضافة إلى تمرده سيعلمه أشياء كثيرة جدا أهم ألف مرة من كل اللى بتدرسوه فى الكتب والمحاضرات والمناظرات والندوات، وهذا الجيل حيرجع واكتسب قدرة تجعله يطالب بحق هو له».
يوضح الدكتور مصطفى الفقى السياق التاريخى لإصداره، قائلا فى مقاله «بيان 30 مارس.. مراجعة سياسية - المصرى اليوم - 3 إبريل 2018»: «فى أعقاب نكسة 1967 ومحاكمة بعض القادة العسكريين، وفى مقدمتهم قيادة سلاح الطيران، خرجت مظاهرات الطلاب الغاضبة تحتج على الأحكام الصادرة بحقهم، وأنها لا تتناسب مع حجم النكسة وفداحة ما جرى، ورأى «عبدالناصر»، أن عليه أن يجدد العهد مع الشعب المصرى بإجراء نوع من المراجعة السياسية، منتقدًا بعض الأوضاع من خلال الحديث عن المسارات الإيجابية التى يجب أن تتجه إليها مصر»، وفقا للأعمال الكاملة لخطب وتصريحات عبدالناصر، فإن الزعيم الراحل قدم فى بيانه كشفا للتحولات التى تلت النكسة مؤكدا: «استطعنا إعادة بناء القوات المسلحة.. وتحقيق الصمود الاقتصادى.. وتصفية مراكز القوى»، مؤكدا أن هذه التحولات قادها رجال فى القوات المسلحة، وخبراء الاقتصاد والعاملين فى وحدات الإنتاج، والملتزمين بأهداف النضال الشعبى، والمشتغلين بالسياسة والفكر والدبلوماسية، وأشار إلى أنه بدأ التغيير بإعادة تشكيل الوزارة، وجاء فيها بصفوة من الشباب، لا يدين أحد منهم أى اعتبار سوى علمه وتجربته فى العمل السياسى، ويمثلون جيلاً جديداً يتقدم نحو قمة المسؤولية، وأكد أن تغييرات أخرى قادمة فى قيادات الإنتاج، والسلك الدبلوماسى، والمحافظين، ورؤساء المدن، وقال: «التغيير المطلوب لابد أن يكون فى الظروف والمناخ، وإلا فأى أشخاص جدد فى نفس الظروف، والمناخ سوف يسيرون فى نفس الطريق الذى سبق إليه غيرهم».
طرح جانبان فى برنامج «30 مارس».. الأول وفقا لقوله: «حشد كل قوانا العسكرية والاقتصادية والفكرية على خطوطنا مع العدو، لتحرير الأرض وتحقيق النصر، والثانى: تعبئة جماهيرنا من أجل واجبات التحرير والنصر، وآمال ما بعد التحرير والنصر، فى الجانب الأول»، وأكد: «لاينبغى أن يكون هناك الآن، صوت أعلى من صوت المعركة، ولا نداء أقدس من ندائه»، أماالجانب الآخر، فهو تعبئة الجماهير بإعادة بناء الاتحاد الاشتراكى بالانتخاب من القاعدة إلى القمة؛ أى من اللجان التأسيسية فى القرية، والحى، والمصنع، والوحدة، إلى المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى، ولجنته المركزية، وإلى اللجنة التنفيذية العليا، ووضع مشروع الدستور الدائم، بحيث يمكن فور انتهاء عملية إزالة آثار العدوان الاستفتاء الشعبى العام عليه، تتلوه انتخابات لمجلس أمة جديد، وانتخابات لرئاسة الجمهورية.
وضع عبد الناصر تصورا لمهام رئيسية فى المرحلة المقبلة، أهمها تدعيم بناء الدولة الحديثة، استناداً على العلم والتكنولوجيا؛ بإنشاء المجالس المتخصصة على المستوى القومى سياسياً وفنياً؛ لكى تساعد على الحكم، وإلى جانب مجلس الدفاع القومى؛ لابد من مجلس اقتصادى قومى؛ يضم شعباً للصناعة، والزراعة، والمال، والعلوم، والتكنولوجيا، ومجلس اجتماعى قومى، يضم شُعباً للتعليم والصحة وغيرها مما يتصل بالخدمات المختلفة، ومجلس ثقافى قومى؛ يضم شعباً للفنون وللآداب وللإعلام..وإطلاق القوى الخلاقة للحركة النقابية سواء فى نقابات العمال أو نقابات المهنيين.
وطرح تصوراته عن مشروع الدستور الجديد، مؤكدا ضرورة أن ينص على الصلة الوثيقة بين الحرية الاجتماعية والحرية السياسية، وتوفير كل الضمانات للحرية الشخصية والأمن لجميع المواطنين، وتوفير ضمانات حرية التفكير والتعبير والنشر والرأى والبحث العلمى والصحافة..وقيام الدولة العصرية وإدارتها؛ لأن الدولة العصرية لم تعد مسألة فرد ولا بالتنظيم السياسى وحده، وإنما أصبح للعلوم والتكنولوجيا دورها الحيوى، ولهذا يجب أن يكون واضحاً أن رئيس الجمهورية يباشر مسؤولية الحكم بواسطة الوزراء، والمجالس المتخصصة التى تضم خلاصة الكفاءة والتجربة الوطنية.
وطالب بأن ينص الدستور على تحديد واضح لمؤسسات الدولة واختصاصاتها؛ بما فى ذلك رئيس الدولة والهيئة التشريعية والهيئة التنفيذية، وتأكيد سلطة مجلس الأمة.وحصانة القضاء، وأن يكفل حق التقاضى، ولا ينص فى أى إجراء للسلطة على عدم جواز الطعن فيه أمام القضاء، وإنشاء محكمة دستورية عليا، ووضع حد زمنى معين لتولى الوظائف السياسية التنفيذية الكبرى؛ ضماناً للتجدد وللتجديد باستمرار.
وتقرر الاستفتاء على هذا البرنامج فى 2 مايو سنة 1968، وفى اليوم التالى لطرح هذا البيان اجتمع مجلس الوزراء برئاسة عبد الناصر، فماذا جاء فيه؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة