منذ قُرابة الشهر وبضعة أيام، كتبت مقالاً بعنوان "هدايا القدر"، وكنتُ أحكى فيه عن الهدايا التى يمنحها القدر للإنسان، رغم عدم قيامه ببذل أى مجهود للحصول عليها، وبعد أن انتهيت من كتابة المقال، شردت قليلا، وقُلت لنفسى أين هديتى؟! ثم اعتبرت أن هذا نوع من أنواع الجُحود؛ لأننى حصلت على الكثير من النعم التى لم أبذل الكثير للحصول عليها، وتناسيت الموضوع، إلى أن أتت اللحظة التى عرفت فيها أننى حصلت على أغلى هدية من القدر، لكننى لم أكد أشعر بها على الإطلاق، ولن أقول ما هى الهدية، إلا بعد أن أحكى تجاربى معها.
فمنذ نحو أسبوعين اضطررت لنقل والدى إلى المستشفى، وكان فى حالة مرضية سيئة للغاية، لدرجة أنه تم حجزه بالعناية المُركزة، وأنا لم أشعر بخُطورة الموقف، إلا عندما وجدته يغيب عن الوعى تمامًا، ولا يتحرك بعد وصولنا بدقائق؛ ما اضطر الأطباء لإجبارى على الخروج من الحجرة، وكان حولى أشخاص كثيرون أتوا لزيارته، وفجأة شعرت أن هناك حركة غير طبيعية بالمكان، ونظرات الجميع لى فى تعاطف وشفقة، فتيقنت أن ما عشت طيلة عمرى أخشاه قد حدث، فلم أشعر بنفسى إلا وأنا أسير دون تحديد هوية؛ لكى أبتعد عن المكان، ولا أسمع الخبر الذى كان مكتوبًا على وجوههم، ثم وجدت كرسيًا، فجلست عليه، ونظرت إلى السماء، ودُموعى مُتحجرة، وقلت بدون صوت: "يا رب، أعرف أنه لا شفاعة فى الموت، وإحنا مش فى زمن المعجزات، بس أنت تقدر تحقق المعجزة، رجعهولى تانى"، ولم أشعر بالدنيا من حولى، وظللت أقول لنفسى: من سيناقشنى بعد اليوم، ويخاف علىَّ، ويتباهى بنجاحى، ويُناكفنى، ويُدللنى، كيف سأعيش من بعده؟!
وبعد مرور وقت، لا أستطيع حسابه، وجدت اثنين من أقاربى يقتربان منى، فشعرت بالرعب، فأنا لا أريد أن أعرف أو أسمع، لا أريد أن يكون لى صلة بهذا الأمر، وعينى كانت تقول لهما، لا تنطقا، ابتعدا، عُودا من حيث أتيتما، لكنهما قالا لا، تعالى شوفى بابا، هو كويس، فقلت لهما، لماذا تكذبون؟ وأخذت وقتًا حتى أقنعونى برؤيته، وأنه حى يُرْزَق، ودخلت عليه، فوجدته نائمًا تمامًا، وعلى جهاز تنفس صناعى، لكننى أنا المرافق له، وطيلة خمسة أيام كنت بجواره، لم يغمض جفنى للحظة، ولم أتركه، والكل يأتى ويذهب، وأنا لم أتحرك، وفى آخر يوم، جلس بجوارى الطبيب المُعالج، وقال لى: "تعرفى إن حالة باباكى حصل فيها معجزة؛ لأن القلب توقف والأكسجين تسرب من المخ، واضطررت أن أعمل صدمات كهربية للقلب، ونسبة قليلة من الأشخاص الذين يتم وضعهم على جهاز التنفس الصناعى، يظلون أحياء بعد أن يتم إزالة الجهاز"، ثم قال لي: أنا مندهش من هذه الحالة، لقد فارق الحياة، وعاد إليها ثانية، لكننى خشيت أن أقول لكِ هذا؛ حتى لا تنهارى".
وخرج والدى من المستشفى، وحكيت له ما حدث، وما دعوت به الله، فقال لى: "لقد استجاب الله لكِ، وحقق المعجزة؛ لأنه بيحبك". وبالفعل، كل من كانوا حولى لازالوا مُندهشين مما حدث، فكلهم كانوا يعرفون الحقيقة، إلا أنا، وهنا أدركت السبب فى أن كل من كان يعرفنى، كان يطلب منى أن أدعو له بما يريد، فقد كنت أندهش من ثقة الناس فى استجابة دعائي، وعندما كنت أسألهم عن هذه الثقة، كانوا جميعًا يُجيبون بذات الجملة: "لأن قلبك نظيف وطاهر، فربنا بيحبك، وبيستجيب دعواتك". وبعد هذا الموقف، أدركت أن هدية القدر لى كانت أغلى هدية، وهى طهارة قلبى ونقاؤه، وعدم قدرة الزمن على تلويثه.
وأخيرًا، هدفى من كل ما كتبته أن أقول أن هدايا القدر نادرة وغالية وعزيزة، لكن حذارِ أن تُضيعها، فلو ضاعت لن تعود، وعن تجربة، فأنا أعرف أحد الأشخاص الذى أرسل له المولى عز وجل هدية غالية، وتفنن فى إضاعتها، أكثر من مرة، وكل مرة يُعيدها الله إليه، ولكنه يُضيعها، إلى أن ضاعت منه إلى الأبد، وبعد تجربته هذه، تعلمت أن أحافظ على أغلى هدية، يُمكن أن أحصل عليها فى حياتى، وهى هدية القدر، فهى لا ولن تُعوض، مهما طال الزمن.