أكرم القصاص - علا الشافعي

د. أحمد الصياد

بعيد عنك !

الخميس، 21 فبراير 2019 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

بعيد عنك، الأحزاب هناك غير عندنا. تنوع فكرى يعكس كل الاتجاهات السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. وكوادر سياسية تعى صحيح قواعد اللعبة السياسية. وبرامج حزبية مدروسة بعناية، تتناول شتى محاور العمل الوطنى وفق ما يتبناه كل حزب من قيم ومبادئ. ومراكز حزبية للتفكير والبحث تدعم ما يتخذه الحزب من قرارات وما ينتهجه من سياسات. ونتيجة لذلك كله، تجد حضورًا حقيقيًا للحزب بين الجماهير، بمستويات تتناسب واتجاه حركة المجتمع وصحيح تفضيلات الرأى العام.

 

لا ينفى ذلك وجود سلبيات وأوجه فساد تعبر عن الطبيعة البشرية. لكن فى ظل بيئة سياسية صحية ترتكز على قيم الدولة المدنية الحديثة، تتراجع كثيرًا محاولات القفز فوق القانون، وتهبط معدلات الفساد السياسي، وتنحسر بشدة فرص خلط الخاص بالعام. ومن ثم تتجسد وظائف الأحزاب السياسية الكفيلة بتحقيق "التنمية السياسية"؛ كمضمون مهم فى المفهوم الشامل للتنمية، إلى جانب المضمون الاقتصادي، والمضمون الاجتماعي. ومن ثم تدعم الأحزاب، عندهم بعيد عنك، الدولة بما تطرحه من رؤى سياسية، وبما تقدمه للبرلمان من نواب يدركون أنهم إنما يمثلون الشعب بأكمله، بقضاياه الوطنية العامة، لا مجرد دوائرهم الانتخابية، بمطالبها الخاصة المنوطة بالمجالس المحلية القريبة منهم والخبيرة بأوضاعهم.

 

ارجع مرة أخرى عندك، تجد الأحزاب، أو فى الحقيقة لن تجدها!؛ فقد تاهت وسط صراعاتها، والموجود منها مُنكفئ على ذاته. ألهتها معارك داخلية فارغة من أى مضمون وطني. ثم أنها لا فرق واضح يُذكر بينها، برامجها متشابهة إلى حد بعيد، ولا تحقق بصدق مفهوم "البرنامج السياسي"، فهى مجرد عبارات إنشائية غير متماسكة الأفكار. كذلك لا مجال للبحث بجدية عن مراكز أبحاث أو دراسات حقيقية فى الأحزاب المصرية؛ فذلك ترف وشرف لا تدعيه أحزابنا!. ومن ثم شاع لدينا مصطلح "نائب الخدمات" الكريه، وتفرغت الأحزاب للعبة الكراسى الموسيقية على مناصبها القيادية، معتنقة خطاب سياسى مشحون بالمزايدات الساذجة، أُذكرك كم لهثت الأحزاب خلف الرئيس السيسى لتدعى أنه فى حاجة لها كظهير سياسي!، والحق أنها ترجوه ظهيرًا شعبيًا لها!.

 

وعليه، فإن أحزابنا على النحو الجارى غير قادرة على التعبير بصدق عن المحتوى الديمقراطى لمفهوم الحزب السياسي؛ إذ نشأت الأحزاب أساسًا كنبت ديمقراطى مواكبًا لفكرة التعددية السياسية، حتى استطالت قامتها لتصبح الرمز الأكبر الشاهد بقوة على ديمقراطية المجتمع ككل، وليس نظامه السياسى فحسب.

 

تسألني: وما علينا لو أهملنا الأحزاب كما أهدرت وظائفها؟!. ببساطة ستفشل كل محاولاتنا لبناء دولة مدنية حديثة؛ إذ لا تعرف الأنظمة السياسية بديلاً يُحترم للأحزاب، كأداة لتحقيق مبدأ "التعددية السياسية"، ذلك المبدأ الدستورى الشهير الذى لا يجوز تجاوزه. ولنا أُسوة فى النظام السياسى الأمريكي؛ إذ لم ينص دستور الولايات المتحدة عام 1787 على التعددية الحزبية؛ فلم تكن الأحزاب تحظى بثقة كبيرة فى قدرتها على النهوض بدور مهم فى النظام السياسى الأمريكي، حتى أن جورج واشنطن، أول رئيس أمريكي، أشار إلى "شرور الأحزاب" فى خطبة الوداع التى قدمها للشعب الأمريكى فى سبتمبر 1796 قبل انتهاء ولايته الثانية. ثم كان أن أدى نضوج التجربة، وتراكم الممارسة، إلى تصدر الأحزاب المشهد السياسى الأمريكي. ومع ذلك، يُدهشك أن تشير تقارير أمريكية مُعتبرة إلى ضعف ثقة الشعب الأمريكى فى الأحزاب السياسية!. ولا أُخفى عليك أن الوضع مُشابه لذلك فى معظم دول العالم الديمقراطي. الأحزاب السياسية إذن كائن تحب أن تكرهه، لكن لا بديل عنه عندما تبحث عن التعددية السياسية، جوهر العملية الديمقراطية.

 

وهل فى ذلك ما يبرر تحملنا وصبرنا على سوء أداء أحزابنا السياسية؟. نعم، ولا شيء يعيبنا فى ذلك. لاحظ أن مصر الآن تؤسس لدولة مدنية حديثة؛ ومن ثم فنحن نبنى ديمقراطية ناشئة، مسموح لها بالخطأ، حتى تتراكم الممارسة الديمقراطية، وتنمو بشكل طبيعي، ونصل إلى مرحلة النضوج، فتتقلص أعداد أحزابنا؛ إذ تنسحب أحزاب من المشهد، وتذوب غيرها، وتندمج أخرى مع بعضها البعض، فيصبح لدينا العدد المعقول من الأحزاب المعبرة عن الاتجاهات السياسية الأساسية.

 

 يرتبط ذلك بمزيد من الجهد نبذله لنحقق البيئة المناسبة؛ فلا تهاون فى كون سيادة القانون أساس متين للدولة المدنية الحديثة التى ننشدها، ولا تتوقف حركتنا باتجاه "مأسسة" الدولة، ونواصل بقوة دعم وتعزيز الأجهزة الرقابية المنوط بها مجابهة الفساد، بشتى صوره وأنواعه. فتعلو تجربتنا الحزبية إلى ما فوق المصالح الخاصة.

 

إلا أن أخطر ما تقدمه أحزابنا السياسية فى المرحلة الراهنة، أنها تشوه صحيح المفاهيم المتعارف عليها فى المجتمعات الواعية بخطواتها!. من ذلك أن تجدهم يؤكدون كم هم "يدعمون الدولة"، ثم لا تجد منهم من ينهض بوظيفته فى المجتمع كحزب سياسى يُفترض فيه المساهمة فى التنشئة السياسية، وإنتاج أفكار مُبدعة خلاقة تنافس بها ما تنتهجه الحكومة من سياسات، وإفراز كوادر سياسية متميزة تُثرى حياتنا السياسية. وغير ذلك كثير من وظائف الأحزاب السياسية فى المجتمعات المتقدمة ديمقراطياً.

 وعليه، ليت أحزابنا تعلم أن "الدولة المدنية الحديثة" تُعلى من شأنهم، بينما تقصيرهم فى وظائفهم يشتت خطواتنا على طريق بنائها... بعيد عنك!.

 

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة