اهتمت شريعتنا الإسلامية بالأعراض اهتمامًا بالغًا، واتخذت من التدابير التشريعية والعقابية ما يضمن صيانتها وحمايتها، فجعلت حفظها مقصدًا من مقاصدها الكلية الرئيسية، وحرمت الاعتداء عليها بالقول أو الفعل، وشرعت لكل نوع منهما ما يناسبه من العقوبات، وجعلت العقوبات من الحدود التى لا يجوز العفو عنها متى رفعت للقضاء، لأنها من حقوق الله الخالصة، وليست من حقوق البشر.
فالاعتداء على العِرض بالقول فقط، وهو اتهام الآخر بالزنى رجلًا كان أو امرأة الذى يُعرف شرعًا بالقذف، يوجب الجلد ثمانين جلدة كعقوبة بدنية، بالإضافة إلى عقوبتين معنويتين لا تقلان عن العقوبة البدنية، وهما: إسقاط مروءة القاذف، فلا يصلح للشهادة عند القاضى، والدخول فى دائرة الفسق، فيوصف بالفاسق؛ وذلك لقول الله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون»، أما إن كان الاعتداء بالفعل، فالجريمة أعظم والعقوبة أشد، وهى تختلف باختلاف حال الجانى من حيث الإحصان، فإن كان الفاعل متزوجًا أو متزوجة، فالعقوبة الرجم حتى الموت، وإن كان غير متزوج أو كانت غير متزوجة، فالعقوبة الجلد مائة جلدة؛ وذلك لقول الله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ»، وقول النبى - صلى الله عليه وسلم: «خذوا عنى، خذوا عنى، قد جعل الله لهن سبيلًا، البِكر بالبِكر جلد مائة وتغريب عام، والثيِّب بالثيِّب جلد مائة والرجم».
وقد دفعنى للكتابة مجددًا فى هذا الموضوع ما هالنى وأنا أطالع الأخبار فى الأيام الأخيرة؛ حيث رأيت ما تشيب له الولدان، ويكشف عن الجرأة على حدود الله وانتهاكها بما تجر إليه الشهوة، بل بما تنفر منه الطباع والنفوس السوية، وهو زنى المحارم والعياذ بالله، فتارة تسمع عن شاب متزوج يعاشر شقيقته وتحمل منه، بل تنجب مولودًا، وتارة تسمع عن آخر يغتصب أمه بعد أن يصيبها بجروح بواسطة آلة حادة! والواقعتان مع انحطاطهما وفظاعتهما ليستا جديدتين، فليست هذه المرة الأولى التى ترد الأخبار بمثل ذلك؛ فزنى المحارم والعياذ بالله أصبح منتشرًا فى كثير من بقاع العالم حتى الإسلامى، كما نطالع ذلك فى أخبار الحوادث بالصحف ونوافذ الإعلام المختلفة، نقلًا عن محاضر الشرطة وتحقيقات النيابات ووقائع المستشفيات، لكن الجديد هو ما ورد فى اعترافات المجرمين فى الواقعتين المذكورتين، حيث نُقل عن الذى اعتدى على أمه بدنيًّا وجنسيًّا أنه لم يكن ينوى الاعتداء عليها جنسيًّا، وإنما كان ينوى ضربها فقط، ولكن الشيطان تلاعب به! وكأن ضرب الأم أمر هين مقدور عليه، لكن الشيطان الملعون هو مَن جره إلى الأمر الكبير، وهو الاعتداء الجنسى!
والاستخفاف بالاعتداء على الوالدين، وبخاصة الأم التى يرى أن ضربها أخف من الاعتداء عليها جنسيًّا، كارثة فى حد ذاته، وكأن هذا الذى يتعلم منه إبليس لم يسمع يومًا قول الله تعالى: «وقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا»، ولعل معلم الشيطان هذا لو قرأ مقالتى هذه لقال إنه لم يقل لها «أفٍّ»، وإنما ضربها واغتصبها، وكلاهما ليس محرمًا فى الآية!
أما الشيطان الآخر، فقد ظل يعاشر أخته على مدى عام ونصف العام، وليس مرة واحدة أو مرات معدودة، دون أن يستيقظ ضميره، أو حتى يفكر فى المصيبة التى أصبحت أخته فيها بعد أن تبين حملها، فلم يطلب منها إجهاضه مبكرًا، معللًا ذلك بأن أخته لم تطلب إجهاض حملها! وربما رأيا أن إجهاض الحمل حرام، فتحملا الفضيحة بدلًا من معصية الله بإجهاض الجنين فى أيامه الأولى! فاستمر هذا الذى تدنى عن مرتبة الحيوان فى فعلته الشنعاء دون أن يتحرك ضميره، فكل ما أعده لإخفاء الجريمة ودفع الفضيحة عن أخته أنه كان يعتزم كتابة المولود باسمه واسم زوجته، وهذا ينهى المشكلة من وجهة نظره! وربما كان ينوى فعل ذلك كلما أنجبت أخته مولودًا جديدًا منه، لكن المشكلة من وجهة نظره أنه فوجئ بأن أخته اعترفت حين سُئلت فى المستشفى بأنه والد طفلها وخاله فى الوقت نفسه، فعقدت الأمور!
والأدهى والأمر - وهذا هو بيت القصيد ولعله الدافع الأقوى لكتابة هذه المقالة - أن هذا الكائن قال فى التحقيقات إنه لم يجبر أخته على معاشرتها، بل إن هذا كان يتم بمحض إرادتها وموافقتها! وهو وغيره على ما يبدو يظنون أن الزنى المعاقب عليه هو الذى يكون بالقوة ودون موافقة الطرف الآخر، كما هو معمول به فى الغرب، وهذه هى المشكلة الخطيرة، بل الكارثة الكبرى!
وليعلم هذا وأمثاله أن الرضا لا يحل الحرام ولا يحرم الحلال، وأن الاعتداء على العِرض بالفعل ينقسم إلى قسمين: الزنى الذى ورد فيه الحد جلدًا لغير المحصن ورجمًا للمحصن، وهو الذى يتم بالرضا التام بين الطرفين، والنوع الثانى هو الزنى بالإكراه، وهذه الجريمة أقبح من سابقتها، لأنها جمعت بين جريمتين فى آن واحد، وهما الزنى والغصب عليه، ولذا سمى ذلك بالاغتصاب، وعقوبة جريمة الاغتصاب لا تكون بالعقوبة المقررة فى الزنى، بل هى من جرائم الإفساد فى الأرض، يحق للقاضى أن يقضى فيها بما يراه من عقوبات مشددة لا تقل عن عقوبة الزنى، فله أن يحكم على المغتصب بالإعدام ليخلص المجتمع من مجرم تجرد من كل معانى الإنسانية وتحول إلى حيوان هائج!
ومن المعلوم أن شريعتنا أوجبت على المعتدى على عِرضه دفع المعتدى ولو كان بقتله إن لم يندفع بغيره، فإذا كان هذا فى حق المغتصب مطلقًا، فما بالنا إن كانت الجريمة واقعة على ذى رحم؟! لا شك أنها أبشع؛ لأنها جمعت بين الزنى والإكراه عليه وقطع الرحم التى أوجب الله وصلها، وعد قطعها من الكبائر، وبدهى أن أقبح ذلك وأخطره هو الاعتداء الواقع على الأم الذى لا يتصوره العقلاء، ولذا فقد أوجب بعض الفقهاء قتل الزانى بمحرم منه، مستدلين بما رُوى عن البراء بن عازب قال: رأيت عمى ومعه راية، فقلت: إلى أين تذهب؟ فقال: أرسلنى رسول الله إلى رجل أعرس بامرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله.
ولسنا هنا فى مجال ذكر ما أورده الفقهاء من الحكم على المعتدى فى هذه الحال، وهل القتل قتل حد أو قتل كفر، ولكننا نبين فداحة جريمة الاعتداء على العِرض، ولا سيما إن كانت بين المحارم، وأن الرضا لا عبرة به ولا يؤثر فى إسقاط العقوبة، وإنما فقده يشددها ولا يجعلها تقف عند دائرة الزنى فقط الذى هو كبيرة فى حد ذاته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة