القارئ محمد محمد مصطفى يكتب: المـآتـم

الجمعة، 29 نوفمبر 2019 10:00 م
القارئ محمد محمد مصطفى يكتب: المـآتـم سرادق عزاء ــ أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا شك أن كل إنسانٍ منا قد مرَّ فى حياتهِ بمرحلةٍ فقدَ فيها شخصاً عزيزاً عليه بسبب الموت، فالموتُ لا يستأذنُ من سيموت ولا يستأذنُ أهلَه فلكلٍّ منَّا أجلٌ مكتوبٌ وأنفاسٌ معدودةٌ عندما تنتهى هذه الأنفاس تكون النهاية الحتمية هى الموت.

أنا هنا لا أتكلمُ عن الموتِ فى حد ذاته، ولا حتى عن الشخص الذى قد مات وترك الحياة، ولكن أتكلمُ عن الأحداثِ التى اْخترعناها وطورناها ونتفاخرُ بها وأقصدُ بعد هذه المقدمة المـآتم أو المحزنة (سمِّها كما تشاء على حسب أين تسكن فى جمهورية مصر العربية).

 عادةٌ غريبة ولا أجدُ لها داعى على الإطلاق وإن كان لها داعى وجدوى (وليها لازمة يعنى) فيمكن أن نقلِّلُ من تكاليفها، خصوصاً أنَّ الميت لا ينالُه أىَّ شىء من هذه الأموال، ولو سألناهُ بعد موتِه وخيرناهُ بينَ عمل سرادق عزاءٍ له وسوف نُكلفهُ آلاف الجنيهات وبين التبرعِ بربعها مثلاً لاختارَ – بلا شك – التبرعَ والإنفاقَ لأنهُ سيستفيدُ من هذه الأموال المنفقة أمَّا ما يُصرفُ على المآتم فهى أموالٌ مهدرةٌ بإسرافٍ عجيب.

عادةُ المآتم فى مصر عادةٌ قديمةٌ جداُ أعطاها المصريون ألواناُ من القدسية بل وصِرنا نسجلُها بالصوتِ والصورةِ حتى نظلَّ نتذكرُها ونتذكرُ من أَتَوا لمواساتنا ومن لم يأتِ ونتكبرُ ونتفاخرُ على الناس لأننا أتينا بالشيخ فلان أو بالشيخ علان والفِراشة كانت من عند الحج فلان أغلى واحد فى البلد وعدة الصوت كانت من عند المهندس فلان صاحب الأستوديو الشهير الذى يتقاضى مبلغا ضخم.

يَحكى لى أحدُهم أنَّ مجموعةَ إخوة مات أبوهم بعد صراعٍ مع المرض فأقاموا سرادقَ عزاءٍ لم يرهُ أحد من قبل وأتَو بالشيخ الفلانى الذى يتقاضى كذا وكذا وسجلوا العزاءَ بثلاثِ كاميرات فيديوا مع وجود إخراج طبعا وشاشات للعرض المباشر حتى أنفقوا أكثر من مائة ألف جنيه على السرادق والعزاء وبعد أن أنهى كلامهُ لاحظَ إنبهارى بهذه الأرقام ... فقلتُ له أكيد كان المرحوم غالى جدا عليهم فابتسمَ ابتسامةً ساخرة وقال أكيد طبعاً بدليلِ أنهم وضعوهُ فى قسم العناية المركزة فى أحد المستشفيات ولم يزرهُ أحدٌ منهم لفترةٍ تجاوزت الثلاثين يوماً بالرغم من وجودهم فى نفس المدينة حتى أن بعضَ الأدوية كانت تأتيهِ عن طريق متبرعين من أهلِ المرضى المجاورين له فى المستشفى بالرغمِ من قدرتهم المادية الفائقة وقبل أن يضعوهُ فى المستشفى كان يجلسُ وحيداً لا يجدُ من يُطعمهُ ولا يسقيهِ فى حجرةٍ فى الطابق الخامس وضعوهُ بها لأنهم يتأفَّفُونَ منه ومن خدمته (عقوق والِدين ونفاق مجتمع).

فى المآتم نفسها أشياءٌ تحدثُ تجعلُكَ تشمئزَّ منها وممن يقومون عليها إلاَّ طبعاً لو كنتَ من أولئِك المستفيدين من هذه المشاهد. فمثلاً إذا كنتَ نائباً فى مجلسِ الشعب فلك مكانتُك عند أصحابِ السرادق وسوفَ تُقدمُ على الجميع ويُفسحونَ لك الطريق وترى أحدُهم يصحَبُك من يدِكَ وآخرٌ خلفك حتى لا تضِلَّ الطريق ويظلوا معك حتى يُجلسوكَ فى أماكنَ مخصَّصةٍ لعِليةِ القوم فهناك المقاعد مُريحة غير تلك المقاعد التى يجلسُ عليها العامة وربما أَتَو لك بتكييف مخصص للمكان ومعه مراوح تُروحُ عليك.

عندما تصلُ لمكانِك الذى أوصلوك إليه سيقابلُكَ هناك بشغفٍ وأحضانٍ وتبجيلٍ وتعظيمٍ كل من عمدةِ البلدة – فى الريف – ومعه الحاج أحمد صاحب محلات الذهب والحاج إسماعيل صاحب مصنع الطوب والحاج كارم طبعا صاحب معرض السيارات ومعهم بالتأكيد رئيس الوحدة المحلية ورئيس مجلس المدينة وغيرهم مِمَّن هم على شاكلتهم، كلُّهم فى استقبالِك واقفينَ ينتظرونك وربما قابلوك فى أولِ السرادق ولو علموا بموعدِ مجيئِكَ لربما حملوكَ من سيارتِك على أكتافهم، كلُّ هذا لأنك نائبُ البرلمان المبَجل الذى يزورهم مرة كل أربع سنين عند الإنتخابات (فقط) ولمَ لا فهو موسم بالنسبة لحضرتك وبالنسبة لزملاء حضرتك المرشحين فدورُكم الرئيسى فى هذه الفترة هو اللف على المآتم والمناسبات فى كل بلاد الدائرة الانتخابية.

ويجلسُ سيادة النائب على المقعد المخصص له فى الركن البعيد الهادى والممنوع منه العامة وفجأةً يهرعُ من مكانهِ واقفاً لأنه رأى من هو قادماً إلى السرادق ولمَ لا يقفُ سيادة النائب لسيادة الوزير فهو أعلى منه فى الرتبة (إن جاز التعبير) والمكانة والمنزلة الاجتماعية.

بعد هذا المشهد بلحظاتٍ أو ربما فى نفس الوقت يأتى رجلٌ بسيطٌ من أهلِ القرية ربما يكون مدرساً أو فلاحاً أو عالماً فقيراً.. المهم أنه رجلٌ ليس غنياً أو أنه لا يأبه لمثل هذه الترهات التى تحدث فهو جاءَ ليؤدى واجب العزاء فى جارٍ له من أهلِ بلدته .. فربما ترى هذه الأجساد اللاهثة وراء سيادة النائب ومن بعده سيادة الوزير تَراها تقابلُ هذا الرجل مقابلةً جافة .. إن مدُّوا أيديهم لِمصافحتهِ تشعرُ كأنهم يتصدقون عليه ولا يهتمُّ به أحد ليُجلِسَهُ على مقعد – حتى أى مقعد –.. يصافحهُ أحدُهم ببرود ولا ينظرُ إليه لأن عيناهُ شاردتان فى السرادق وفى والطريق المؤديةِ إليه يبحثُ عن نائبٍ آخر أو وزيرٍ آخر ثم يشاورُ لهُ أن إجلس هناك .. وربما إشمأزوا منه ومن إتيانه لهم فى هذا التوقيت الذى يتواجد فيه السادة.

وإن ذهبتَ إلى (هناك) حيثُ جلسَ هذا الرجل (الفقير) ترى هناكَ مجموعةً من الناسِ متشابهينَ فى لباسهم وأشكالهم تكسوهم البساطة وعدم التكلف وفوق كلِّ ذلك ربما تجدهم هُمُ الأقربُ لأصحابِ السرادق فى مصائبِهم وكم مرةً وقفوا معهم وجبروا كسرهم ولكنها هى الحياة ياأصدقئى فدائماً المصلحةُ تحكم (المصالح بتتصالح).







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة