ننشر فصلا من رواية "كل شىء هادئ فى القاهرة" لـ محمد صلاح العزب

السبت، 26 يناير 2019 09:00 ص
ننشر فصلا من رواية "كل شىء هادئ فى القاهرة" لـ محمد صلاح العزب رواية كل شىء هادئ فى القاهرة للكاتب محمد صلاح العزب
أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

صدر للكاتب محمد صلاح العزب، رواية "كل شىء هادئ فى القاهرة" عن الدار المصرية اللبنانية للنشر، ضمن إصدارات معرض القاهرة الدولى للكتاب 2019، فى دورته الـ50، اليوبيل الذهبى، والتى ننشر فصلا منها لجمهور القراء

فصل من رواية كل شىء هادئ فى القاهرة

أؤمن بأن الله يختارنا لأشياء محددة سلفا، ربما لهذا اختارنى لهذه السيارة، وهذه الشقة، وهذا الجسد، ربما أراد لى أن أشاهد هذا المشهد فى هذا المسلسل الردئ، وأن تظهر “بسنت” فجأة تمهيدا للعودة، وأن أتشاجر مع جارى أمام العمارة لأننى أغلقت بسيارتى على سيارته، فأتأخر لمدة 10 دقائق، فأسرع فى القيادة، حتى أصل إلى ميدان الجيزة، فتمر أمامى “فيروز” وهى تنظر نحو رجل مجنون يجرى أمامها، فلا ترانى أو أراها إلا فى لحظة اصطدام سيارتى بجسدها، عيناها فى عينيّ، فى لحظة شديدة الطول، قبل أن يطير جسدها، والموبايل، وحقيبتها، بتصوير بطيء، ثم تعود سرعة الصورة إلى طبيعتها، وهى على الأرض غارقة فى دمائها، والرجل يواصل جريه منها نحو اللاشيء.

رواية كل شىء هادئ فى القاهرة للكاتب محمد صلاح العزب
رواية كل شىء هادئ فى القاهرة للكاتب محمد صلاح العزب

 

أنزل من السيارة فى حالة ذعر، يمر أمام عينى شريط سريع “دينا”، “كرمة”، أبي، حفل زفافي، المشاجرة الأخيرة مع “بسنت” قبل أن نفترق، مكتبى فى الجريدة، أمى التى تنتظرنى مساء لأوصلها إلى المطار حتى تسافر للعمرة، حذاء “فيروز” المسطح، حقيبتها الجلدية السوداء، شعرها المصبوغ بالأصفر، ملامحها الأربعينية الجميلة.

المارة يحيطون بى متوقعين منى أن أراوغهم وأهرب، وقد تقمص كل منهم دور رجل شرطة محنك، يعدلون جسد “فيروز” ويسكبون على وجهها مياها من زجاجات قذرة، وفتاة ترش عطرا رخيصا على وجهها، وموبايلى يرن مكتوبا على شاشته “بسنت محمد علي”، والمارة يتجمعون أكثر وأكثر حول المرأة الغارقة فى دمائها، وحولى وحول السيارة، يفتشون فى حقيبتها ويخرجون بطاقتها: “فيروز سلامة عبد الله”.

صوت سارينة عربة الإسعاف، وأمين شرطة، واتصالات متكررة على هاتفي، زوجتي، ثم أمي، وأمين الشرطة يطلب “الرُّخَص” على نغمات الموبايل، “بسنت”، ثم الجريدة، ثم أمي، ثم “بسنت”، التى رددت عليها فقالت:

مرت ساعة.

لن أستطيع المجيء يا بسنت.

أمين الشرطة يسحب منى الموبايل.. ويركبنى سيارتى فى الكرسى المجاور للسائق ويقود هو ويسير خلف عربة الإسعاف التى استعانت على الزحام بصوت سارينتها العالية.

مد أمين الشرطة يده وسحب سيجارة من علبتي، وأشعلها، وشغل الراديو على إذاعة القرآن الكريم: "والذاريات ذروا.. فالحاملات وقرا.. فالجاريات يسرا.. فالمقسمات أمرا.. إنما توعدون لصادق".

هل نحن مخيرون أم مسيرون؟! هل يختارنا الله لما قدره مسبقا؟!.. ألهذا لم يجعلنى حارس سجن فرنسي، لم يعرف فى حياته الطويلة سوى حكايات المسجونين، يحفظ المئات منها، عن ظهر قلب، دون أن يعرف ماذا يفعل بها كهذا الحارس الذى كتبت عنه على سبيل الترفيه فى الجريدة، وحققت قصته أعلى نسبة قراءة على الموقع الإلكترونى وتقاضيت عنها مكافأة تم تعليق ورقة بشأنها على لوحة المكافآت؟.

يرسم الله صدفا وتقاطعات فى حياتنا تشبه لعبة الـPuzzle ليخلق منها دراما تدفع الحياة إلى الاستمرار دون ملل، ماذا أفعل هنا، فى هذه السيارة الغريبة التى علمت حين اشتريتها أن طيارا مصريا اشتراها فى تركيا وعاش بها 5 سنوات هناك، ثم شحنها إلى مصر، وظل يفضلها على أسطول سياراته حتى مات مقتولا، وباعها ورثته إلى تاجر سيارات نصب عليهم فى أكثر من نصف ثمنها، قضى بها 6 أشهر ثم أرسل أحد صبيانه لعرضها للبيع فى سوق سيارات مدينة نصر.

اشتريت الهوندا البريليود، وأحببتها، دون أن أدرى أن كل هذا جزء من خطة كبرى لكى أجلس الآن بجوار أمين شرطة صامت نستمع إلى سورة “الذاريات” وأمامنا سيارة إسعاف بها جثة امرأة أربعينية!

أعطانى “عوني” أمين الشرطة كما أخبرنى باسمه فيما بعد موبايلى الذى ظل يرن بانتظام، فرددت على “بسنت” و”دينا” وأمى على التوالى وأخبرتهن بما جرى، محاولا طمأنتهن، ثم حاول “عوني” طمأنتى وهو يركن السيارة أمام المستشفى، بأنه حتى لو ماتت “فيروز”، فـ”ديتها” قضية “قتل خطأ”، ربما آخذ فيها حكما مع إيقاف التنفيذ فى حال “صعبت” على القاضي، ثم ختم كلامه وهو يسحب آخر نفس من السيجارة الثانية من علبتي:

الله يشفيها إذا كانت حية.. ويرحمها إذا كانت قد قابلت وجه كريم.

– 2-

أنا الآن هنا، شاهد على كل ما حدث، ولا يمكننى أن أتنبأ بما سيحدث، أجلس فى انتظار موت بطيء لامرأة لا أعرفها ولا تعرفني، وليس بيننا سوى نظرة لحظية، وموت، لا أسباب لمجيئه، ولا أسباب لتأخره.

 

أجلس فى المستشفى محبوسا فى غرفة ضيقة بها مكتب وكرسى ورائحة دماء وأدوية نفاذة، تأتينى فكرة أننى لو نجوت من السجن سأسافر إلى باريس وألتقى حارس السجن العجوز وأن أسمع منه كل حكايات المساجين وأدونها فى كتاب، ربما أكتبها رواية، قلت لنفسى إنها فكرة جيدة، ثم فكرت فى أننى لو دخلت إلى السجن فربما أكتسب خبرة يمكننى كتابتها فى سلسلة تحقيقات صحفية عن الحياة خلف القضبان أجمعها فى كتاب فى النهاية.

اتصلت بالجريدة، وبصديقى “سميح” المحامى المنشغل جدا هذه الأيام بإنشاء صفحات على فيس بوك للدعوة لثورة 25 يناير، أعطيت “عوني” الأمين مائة جنيه وطلبت منه أن يرسل من يشترى لنا سجائر وشاى من بوفيه المستشفى، ففرح ووضع النقود فى جيبه، وأغلق على الباب بالمفتاح من الخارج، ثم طرق بعد قليل ومعه علبة سجائر واحدة جذب منها 10 سجائر فرط وضعها فى علبته القديمة، ثم أعطانى العلبة الجديدة وبها السجائر العشرة المتبقية، ثم أتت عاملة بدينة تحمل صينية متسخة بها كوبين بلاستيكيين بهما شاى ساخن، تنطلق منه الأبخرة.

خرج “عوني” يمزح مع العاملة البدينة، شربت الشاى وأنا أفكر أن الحياة ليست سوى رواية لا يمكن لها أن تكون ذات أهمية إلا بتعقيدات درامية مؤلمة.

يطرق الباب ويدخل “عوني” الذى صار واقفا فى صفى جدا ضد “فيروز” حين علم أننى صحفي، وظل يمازحنى ويقول لى إننى يجب أن أبدو شجاعا، لأن السلطة الرابعة لا تخاف، وطلب منى أن أكتب فى الجريدة عن معاناة أمناء الشرطة لأن (...) يفعلون كل الموبقات ولا يعملون ويحصلون على كل المزايا.

دخل “عوني” وغمز لى ثم دخلت خلفه “بسنت”، جميلة كعادتها بشعرها الطويل الأسود المموج الذى يصل حتى مؤخرتها، مرتدية بنطلون جينز ضيق وتى شيرت أبيض عليه كلمات متداخلة بالإنجليزية.

ظل “عوني” شاردا يتفحص “بسنت” بإعجاب، وضبطت نفسى أفعل المثل، فأنا لم أرها منذ أكثر من عام ونصف العام، بعد أن ظللنا نلتقى يوميا تقريبا على مدار عامين.

زعقتُ فى “عوني” فانتبه وطلبت منه أن يخرج فغمز لى وسحب الباب وخرج، وانتبهت لـ”بسنت” فوجدت عيناها معلقتان بالدبلة فى يدي:

مبروك.

هل هذا وقته؟ افتقدتك جدا.

قالت بدلالها القديم:

غريبة.. لم أفتقدك.

المرأة التى صدمتُها بالسيارة فى العناية المركزة.

هذا هو تفسير الحلم.

نظرت لى “بسنت” بحب، ثم بضيق، ثم ربتت على مؤخرة رأسى بحركة رجالية من حركاتها التى أحبها:

لا تقلق سأزورك فى السجن.

طرق الباب مرة أخرى، ودخل “عوني” كأنه السكرتير الخاص بى مصطحبا معه “دينا” هذه المرة.

نظرت “دينا” لـ”بسنت” من فوق لتحت، وتفحصتها “بسنت” باستكشاف مدعية اللامبالاة.

حاولت إنقاذ الموقف بتعريفهما لبعضهما البعض بأكبر قدر استطعته من الحيادية.

بسنت.. زميلتى فى الجرنال، فى الحوادث.. دينا زوجتي.

هذه اللحظة المتوترة، فى هذه الغرفة الكئيبة، فى هذا المستشفى الحكومى البائس ستكون نقطة فاصلة، ما بعدها لن يعود أبدا كما كان قبلها. ثلاثة أعوام كاملة ستمر قبل أن تعرف “دينا” طبيعة علاقتى بـ”بسنت”، وأننى كذبت عليها، وأن “بسنت” لم تعمل فى الصحافة على الإطلاق، ثلاثة أعوام ستهتز فيها مصر كلها، ولن يعود أى منا أبدا كما كان لا “دينا”، ولا “بسنت”، ولا أنا.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة