صدر مؤخرا كتاب "عروش تتهاوى.. النهايات الدرامية للأسرة العلوية" عن دار حسناء للنشر والتوزيع، للباحث الشاب محمد غنيمة، الذى يعمل ضمن فريق ذاكرة مصر بمكتبة الإسكندرية، والكتاب ميزته المزج بين التاريخ والسرد الأدبى، وبالتالى هو كتاب للناشئة والكبار، ويفيد فى باب الثقافة التاريخية، ويقدم سردا لتاريخ أسرة محمد على إلى الملك فاروق كاشفا عن مآسى هذه الأسرة التى تولت عرش مصر،لذا فإن نص الكتاب هو نص سردى تاريخى وتقرأ فيها أحداث العام 1846م:
«اقترب من الثمانين، يشعر أن أجله قد حان، جمع رجاله وكبار موظفى دولته على مائدة عشاءه بالقلعة، طلب منهم أن يردوه إلى الحق.. حاول إقناعهم بأنه لم يعد يعلى شيئًا سوى مصلحة الوطن وإسعاد مواطنيه، وعلى غير عاداته قال:
"إذا كنت آمر أحدكم شفاهًا أو تحريراً بقولى له: أجْر المادة الفلانية بهذه الصورة وحصل منه اعتراض على وذكرنى وأفادنى شفاهاً أو تحريراً بأن المادة المذكورة مضرة، فهذا يكون منه عين ممنونيتى الزائدة، وأنا مرخص لكم فى ذلك الرخصة التامة المرة بعد المرة".
لعل هذه الكلمات الغربية على أسماعهم لم تزدهم إلا خوفًا، لم يكن بهذه السلاسة من قبل، لابد أنها مكيدة جديدة، لم يجد من مجيب.. فقط: أنت ولى النعم، أنت أفندينا، لا تخطئ أبدا... الأمر أصبح أكثر حيرة بعدما سمعوه يكمل؛
”ولتعلموا أنكم إذا لم تتحولوا عن خصالكم القديمة من الآن وصاعداً ولم ترجعوا عن طرق المداراة والمماشاة ولم تقولوا الحق فى كل شيء ولم تجتهدوا فى طريق الاستواء، ولم تسلكوا سبيل الصواب لصيانة ذات المصلحة، فلابد لى من أن أغتاظ منكم جميعاً، ولما كنت موقناً بتقدم هذا الوطن العزيز على أى صورة كانت، وملتزماً فريضته على صرت مجبوراً على قهر كل من لم يسلك هذا الطريق المستقيم اضطراراً مع حرقة كبدى وسيل الدموع من عينى".
كلام لاذع وساخر وصريح للغاية، إن لم يكن وقحًا كل الوقاحة، نظر إليهم بعينه الرماديتين التى لا تخلو من الحياة ونهض من على كرسيه وحرك قامته القصيرة وجسده الممتلئ وضرب بذراعيه القصريتين على طاولته واستحق الجالسين لقب "أشيك".
مقولته هذه الذى جمع قاداته وحاشيته ليقولها؛ ترسخ فى نفسه، هل تشفى وتثلج صدور الحاضرين، هل كان يخاطبهم أم كان يخاطب نفسه، هل عاد فعلا لا يبغى من الحياة سوى مصلحة شعبة ؟!!، أم أحس أن أسطورته واشكت على الفناء، هل عاد يتذكر حمام الدماء الذى أسالة للمماليك، كل الليالى كان يخاطب دهائه.. يتحدث معه فى جلسة بعيده عن موطن العقول.. دائمًا ما يفاجئ حتى نفسه بأفعاله التى هى بالفعل غابة شائكة من الأفعال المحسوبة، نُظمه غير مألوفة، تتباه الأن رعشته المعهودة التى طالما تذكر فيها حرق أبنه إسماعيل فى السودان أو هذه المذبحة التى أباد بها المماليك، أنه يتذكر زوجته" أمينة هانم" التى هجرته بسبب فعلته هذه».
ويصف المؤلف مغادرة الخديو إسماعيل بعد عزله على يخت المحروسة كما يلى:
«خرج الخديوى متكئا على كتف أبنه الخديوى الجديد، وكأنه يصارع الألم، يتحدث فى صمت "ما زلت الأقوى وسأظل"، ولكن الركب قد بلغ محطته المنشودة، فترجل المعزول وأردف به الخديوى يودعه، التأثر جلى على المعزول فهو يدرك أنها أخر الأنفاس التى يستنشقها هنا فى بلاده فوقف يودعها ويودع الناظرين فتسارعت الكلمات تخرج من قلبه ونظر إلى فلذة كبدة قائلاً:
” لقد اقتضت إرادة سلطاننا المعظم أن تكون يا اعز البنين خديوى مصر، فأوصيك بأخوتك وسائر الآل براً، واعلم أنى مسافر وبودى لو استطعت قبل ذلك أن ازيل بعض المصاعب التى أخاف أن توجب لك الارتباك، على أنى وأثق بحزمك وعزمك، فاتبع رأى ذوى شوراك، وكن أسعد حال من أبيك “.
على يخته الذى بناه وأوغل فى إسرافه؛ كان يأمل أن يكون مصدرا لبهجته ولكنه تحول إلى مصدرا لنفيه، تحركت محروسة، فأطلقت طابية كوم الناضورة والسفينة روبرت تحية له وكأنه تكريم نهاية عمره فى هذه البلد.
انطلق اليخت وطار الحلم إلى إيطاليا، أقام بالقصر الذى أعده له صديقه الملك أمبرتو، ومنها ظل يجوب البلاد وشد الرحال للأستانة عله يحظى بقرب المحروسة، الذى طالما تمنى الرجوع لها خاطب أبنه وأحفاده للرجوع لكن دون فائدة.
مات ابنه فى حياته، الأمر أشبه بما حدث لجده، يموت الأبناء ويبقى الآباء فى تعاسة، لا يستطيعون فعل شيء، مقيد هو بأغلال النفي، الخبر يصعقه، يحطم ما تبقى من مشاعره، أيامه أصبحت قاتمة، أمله الأخير وحلم حياته عودته لمصر، لكن الأمر أصبح بعيدا، لا يطلب الآن سوى الدفن بين أراضى المحروسة، يريد أن يشم رائحة تراب مصر، حتى إن كان جثة هامدة»
أتوقع نجاحا لهذه النوعية من الكتب التى نحن فى أشد الحاجة لها، فالكتب التاريخية الأكاديمية غير مناسبة للجمهور، وبالتالى مثل هذا الكتاب يسد ثغرة كبيرة، ويلبس متطلبات الجمهور فى الكتب التاريخية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة