كيف انتشر الأدب الساخر فى روسيا؟.. المقاومة بالضحك ضد كآبة الثورة الدموية

السبت، 29 سبتمبر 2018 02:01 م
كيف انتشر الأدب الساخر فى روسيا؟.. المقاومة بالضحك ضد كآبة الثورة الدموية الثورة الروسية
كتب بلال رمضان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كيف انتشر الأدب الساخر فى روسيا؟ وفى أى زمن عرفه القراء؟ الإجابة عن هذا السؤال تحمل فى طياتها الكثير من المفاجآت المتناقضة، سواءً حول كيفية الانتشار، والأغرب، هو تلك الفترة الزمنية التى شهدت رواجا له، حتى وصل الأمر إلى ترجمته إلى لغات أجنبية.

فى قلب الثورة الدموية التى اندلعت فى عام 1917 انتشر الأدب الساخر فى روسيا بشكل غريب، وهو أمر لافت للنظر، فإن كانت الثورة عملا دمويا عنيفا فى كثير من الأحيان فكيف ولماذا يحدث ذلك؟.

ميخائيل زوشينكو قصص مختارة
 

هذا السؤال طرحه المترجم المصرى يوسف نبيل، فى مقدمته للقصص المختارة للكاتب الروسى ميخائيل زوشينكو، والتى أصدرتها سلسلة إبداعات عالمية، التى تصدر عن المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، فى دولة الكويت.

ويشير يوسف نبيل، إلى أنه فى أوائل عام 1922 صدرت المجموعة القصصية الأولى للكاتب الروسى ميخائيل زوشينكو وضج الناس بالضحك، ونفد الكتاب من السوق خلال عدة أيام، ثم أخذت دور النشر والمجلات تتسابق على نشر قصص هذا الشاب، المدعو ميخائيل زوشينكو حتى جابت شهرته الآفاق، وفى أعوام العشرينيات والثلاثينيات كان من ألمع الأصوات الأدبية فى روسيا، وسرعان ما تمت ترجمة بعض أعماله ونشرت مجلة "القرص الأحمر" البلجيكية قصته المعنونة "فكتوريا كازيميروفنا" مترجمة إلى اللغة الفرنسية فى عام 1923، وكان ذلك أول عمل أدبى سوفيتى ينشر فى الغرب بعد ثورة أكتوبر 1917. ثم تتابعت ترجمة أعماله إلى أهم اللغات الحية فى العالم.

كانت الفترة التى تلت الثورة الروسية، وكانت ثورة شديدة الدموية اندلعت مع بدايتها حرب أهلية عنيفة بين الشيوعيين والحرب الأبيض. وجرت على إثرها فظائع وأهوال عنيفة بين الجانبين، بالإضافة إلى اشتراك روسيا فى الحرب العالمية الأولى ثم انسحابها.

الثورة البلشفية

الأكثر غرابة – كما يقول يوسف نبيل – هو أن ميخائيل زوشينكو كان مصابا بالاكتئاب فى أغلب الوقت، وقد حاول أن يتداوى من مرضه بلا فائدة، فكيف يمكن لكاتب مكتئب أن يجعل القارئ يضج من فرط الضحك؟.

هذه المتناقضات العجيبة ترتبط طوال الوقت بتاريخ الأدب الروسى، وللسخرية فى الأدب الروسى أصول وآباء وأعلام بداية من جوجول العظيم وحتى زمن ميخائيل زوشينكو وبولجاكوف، وكمحاولة للإجابة عن هذه الألغاز يلقى - يوسف نبيل – نظرة على الضحك بوصفه وسيلة للتحرر الاجتماعى.

اليوتوبيا الشيوعية

يشير المترجم إلى أنه مع وصول البلاشفة إلى كرسى الحكم بدأ فرض نموذج اليوتوبيا الشوعية بالقوة، وبدأ تدريجيا اضطهاد عنيف لأصحاب الفكر الحر، وقد قتل كثير من الأدباء والمفكرين ونفى الكثيرون، ولا عجب أن هاجرت مجموعة ضخمة من الكتاب والمثقفين فى عدة موجات، طالت حتى مكسيم جورجى نفسه الذى كان شيوعيا مخلصا، لكنه لم يكن مخلصا كفاية بالنسبة للشيوعيين والأيديولوجيين المتعصبين.

فى ظل هذه الأجواء الكابوسية التى تبشر بلون أدبى واحد ممثل فى الواقعية الاشتراكية، وبنموذج علمى مادى واحد، وفى تبنى الدولة وفرضها لأنواع بعينها دون غيرها من الفنون والعلوم والأفكار، قد يعتبر الضحك وسيلة من وسائل المقاومة.

يشير المترجم يوسف نبيل إلى أن السلطة حاولت فرض اليوتوبيا الشيوعية بكل أنواع الطرق، وقد تبنت نموذجا سلوكيا محددا لدى المواطن الشيوعى الصالح، وهو أول ما انهال عليه الشاب زوشينكو بالسخرية، وخلف الضحك تكمن المرارة والاكتئاب، ورغم ذلك قامت عبقرية ميخائيل زوشينكو بإخراج منتج أصيل فى النهاية يثير الضحك والتفكير والتساؤل. لم يقدم زوشينكو مجرد اسكتشات هزلية، بل جدد فى الشكل والمضمون.

فى البداية كان ميخائيل زوشينكو يعى التغيرات الضخمة التى قد حدثت فى أذواق القراء قبل اندلاع الثورة البلشفية وتبنى الشيوعيين برامج تثقيفية واسعة لم تكن حركة قراءة فى روسيا مرتبطة سوى بفئات محدودة، وكان الأدب الكلاسيكى الخاص بالعصر الذهبى يناسبها تماما من حيث طبيعة الموضوعات الوجودية والأسئلة الدينية والروحية التى ميزت الأدب الروسى فى ذلك الوقت، والانشغال الكامل بالإجابة عن سؤال: "ما العمل؟".

ويوضح يوسف نبيل أنه بعد سيطرة البلاشفة اتشعت رقعت القراءة بشكل ملحوظ. وحاولت السلطة تقديم أدب مؤدلج بسيط يمكن للقارئ البسيط أن يستوعبه بسهولة، وهو منتج لا يمكننا أن نطلق عليه أدبا فى الحقيقة، فهو وصفة أيديولوجية خبيثة فقيرة المضمون.

أدرك ميخائيل زوشينكو ذلك بوضوح فحاول تقديم منتج أدبى يتميز بالبساطة المتناهية فى اللغة والأفكار، ورغم ذلك يحمل عمقا شديدا، كانت محاولته تشبه محاولة تولستوى التى قام بها فى أيامه الأخيرة بشكل ما، حينما حاول أن يقدم أدبا يمكن للفلاحين أن يقرؤوه، فقد كان مدركا هو الآخر لحرمان طبقات هائلة من القراءة، وعدم تعاطيها مع المنتج الأدبى الموجود، لكن تولستوى كان منشغلا بالأسئلة الدينية الورحية، ومواجهة السلطة القيصرية بالعصيان السلمى، أما ميخائيل زوشينكو فقد كان فى أجواء مختلفة تماما، وحاول وصف المجتمع من حوله بطريقة بسيطة وعميقة فى الآن ذاته.


الثورة الروسية

تحدث زوشينكو عن الشقق المشتركة، وهى الظاهرة الأهم فى وقته، حيث انتزعت السلطة السوفييتية الملكية من فئات واسعة من الشعب، وأعادت توزيعها، فظهرت الشقق المشتركة حيث تقطن كل أسرة فى غرفة ما داخل الشقة، ويكون للشقة إدارة ذاتية، وللبناية أيضا إدارة تدير شؤؤنها.

وجد الشعب الروسى نفسه فى وضع يمر به للمرة الأولى، ففى شقة واحدة تجتمع مختلف الطبقات والقطاعات الروسية المختلفة، ويصبح المطبخ هو المكان الذى يتبادل فيه الأحاديث مواطنون من كافة الاتجاهات والأعمار والوظائف حيث فرض عليهم أن يعيشوا بعضهم مع بعض، ولم يكن هذا يخلو من المفارقات والمواقف المضحكة بالطبع.

قدم ميخائيل زوشينكو فى قصصه بانوراما شاملة للمجتمع الروسى فى تلك الفترة. تحدث عن الشقق المشتركة وعن الحمامات العامة وعن الشوارع ووسائل المواصلات وعن الكهرباء والفقر والجرائم وأزمة الإسكان والمستشفيات والنظام الطبى.. إلخ.

ميخائيل زوشينكو

ولد ميخائيل زوشينكو فى عام 1894 فى ليننجراد "بطرسبورج حاليا"، وتوفى يوم 22 يوليو 1958. وهو من عائلة فنية، وبعد أن أنهى المدرسة الثانوية التحق بكلية الحقوق فى بطرسبورج لكنه لم يكمل الدارسة بها بعد أن قضى فيها بضع سنوات، وتطوع للذهاب إلى الجبهة، وهناك شارك فى الجيش القديم أولا "وصل فى الخدمة إلى رتبة ضابط أركان، وقد حصل على عدد من الأوسمة" ثم استمر بعد ذلك بالخدمة فى الجيش الأحمر.

تنقل ميخائيل زوشينكو فى غضون ثلاثة أعوام بين اثنتى عشرة مدينة وعشر مهن مختلفة. ومنذ عام 1921 بدأ فى العمل بالأدب، وكان واحدا من جماعة "الإخوة سيرابيون"، وهى جماعة أدبية ظهرت فى عام 1921 فى بتروجراد، وأخذت اسمها من أحد أبطال روايات الكاتب الألمانى أ.هوفمان، واستهدفت البحث عن أساليب واقعية جديدة مع الآخذ بالتجريب الشكلانى ورفض القوالب وعدم الالتزام بالمذاهب السياسية.

انتخب ميخائيل زوشينكو فى المؤتمر الأول للكتاب السوفييت، الذى عقد عام 1934 عضوا فى إدارة اتحاد الكتاب السوفييت، وفى عام 1935 نشر "زوشينكو" مجموعة قصصة هجائية بعنوان "الكتاب السماوى". واعتبر النقد الأدبى السوفييتى الرسمى أن ميخائيل زوشينكو قد خرج فى هذا الكتاب من أطر الهزل والهجاء الإيجابى، الأمر الذى جعل السلطات تفرض الحظر على نشر كتبه فى الاتحاد السوفييتى.

كتب ميخائيل زوشينكو إبان الحرب الوطنية العظيمى (1941-1945) عددا من المقالات الهجائية الموجهة ضد النازية وزعمائها، بالإضافة إلى بعض السيناريوهات للأفلام الروائية، ولكن أهم ما كتبه فى تلك الفترة هو كتابه العظيم "قبل شروق الشمس"، وقد كان موعد نشره غريبا، فبينما تسابق الكتاب لنشر الروايات الحربية والتغنى ببطولات الجندى الروسى نشر ميخائيل زوشينكو هذا الكتاب الذى يحاول فيه البحث عن سبب كآبته واسترجاع حوادث من الطفولة والشباب، بالإضافة إلى الأحلام للتوصل إلى سبب مرض الاكتئاب الذى أصابه، دون جدوى، ويعتقد الخبراء فى علم النفس أن "زوشينكو" استبق فى هذا الكتاب بعض الاكتشافات فى مجال علم اللاوعى.

تمثال للكاتب ميخائيل زوشينكو

وفى عام 1946 صدر قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفييتى بعنوان "حول مجلتى زفيرديا وليننجراد"، الذى انهال فيه النقد اللاذع على إبداع ميخائيل زوشينكو وبعض الكتاب السوفييت الآخرين، الأمر الذى أدى إلى حرمان "زوشينكو" من العضوية فى اتحاد الكتاب السوفييت، وفرض الحظر على نشر مؤلفاته. واضطر الكاتب للانتقال إلى إبداع الترجمة، حيث ترجم بعض القصص للكاتب الفنلندى المعروف مايو لاسيلا.

وبعد موت ستالين استعاد ميخائيل زوشينكو عضوية اتحاد الكتاب، ولكنه حرم من تقاضى المعاش التقاعد بعد بلوغه سن التقاعد، وتمكن ميخائيل زوشينكو عام 1957 من إصدار مختارات من قصصه، لكن صحته تدهورت سريعا، وقضى آخر سنوات حياته فى منزله الصيفى بمدينة سيستروريتسك حيث كان يواجه أزمة نفسية صعبة. توفى ميخائيل زوشينكو فى 22 مايو عام 1958 نتيجة إصابته بالسكتة القلبية، ودفن فى مقبرة بلدة سيستروريتسك بواضحى مدينة ليننجراد "بطرسبورج حاليا".







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة