كلما تأزم الإنسان انتعشت النزعة الإنسانية من جديد، لتنادى بصورة إنسان منتظر بعدما تطفو الظلال على الساحة.
هو ظل إنسان يشكو من غياب صاحبه ويهدد بالزوال رغم حضور الشمس فى أوجهها مع كل ظهيرة.
يتأزم الإنسان وتتأزم صورته عبر التاريخ ليرسم ملامح الهزيمة والحيرة والإحساس بالضياع فى اتجاه الطريق المسدود. وكأنه لم يبق سوى العيش فى الماضى على جناح الذاكرة متمتعا بنشوة الزمن الجميل الذى لم يعد له أثر أو فاعلية إلا فى مخيلة صاحبه الموشوم جسده بالقهر والأسى.
صورة قاتمة عن إنسان اليوم وكأنه ميعاد الزمن الصادم لكل وجود يشكو الغياب ...
ولأن من الأجزاء يتكون الكل سيظل الأفراد هم من يشكلون المجتمع ومن يحددون ملامحه وأحواله، وهكذا تنتعش الأمراض الاجتماعية وتتنامى بشكل لم نعد نقدر على المقاومة والاستيعاب سوى بالسخط والتحسر.
تتعالى كل الأصوات لتكون صدى المجتمع تشكل عنه صورة قاتمة تغطى الوجود ليغيب مفهوم الألوان والجمال الذى تعلمناه من تذوقنا لطعم الحياة فى الزمن الجميل.
كل حى أصبح شيئا وكل روح أصبحت صنما جامدا لا يتكون إلا بالصورة التى أعطيناها له وأحببنا أن نراها فيه وكأنه إنسان آخر يعطى للمخيلة مساحة أوسع فى الحياة معلنا وجوده الذى كان عليه أن يستمر.
هى حقيقة مؤلمة تكشف عن تصحر المشاعر وجمودها، ليتخثر دم المجتمع فى كل أعضائه مما يقلل من قدرته على الحركة ومن سرعة المشى دون سند يظهر عجزه ويعلنه بشكل تتقيد فيه كل الإرادات والقدرات، وتسجن اختياراته الممكنة التى كان يتباهى بقدرته عليها فيما مضى وترمى به فى بحر من الأمانى والأمنيات تعطى معنى للوجود .
اضطر الإنسان إلى استدعاء لكل من الخيال والذاكرة لأنه لم يعد يمتلك غيرهما، وإن كان خيالا لا علاقة له بالواقع سوى تركيب لصورة فى شكل غريب، فإمكانية حدوثه ضعيفة لكنها ممكنة أكيد فى عالمنا الفردى وهو عالمنا الاستهامى الداخلى، بعيدا عن كل حقيقة ممكنة. وكأنه زمن الاستيهامات ما ينقد الإنسان من واقع مرير، ويضيع المجتمع بضياع قدرة الأفراد على العطاء.
أما الذاكرة فهى قدرة الإنسان على التذكر واستعادة الأحداث من جديد متخطيا حدود الزمان والمكان بشكل فردى لكل ما حدث فى واقع مضى وطويت صفحاته ويظل الحنين له يناشده ويعيد العيش فيه فى حياة داخلية تبعث عن اللذة والمتعة، كل شيء فيه جميل لأنه لم ولن يعود، وإن استحال على الإنسان تغيير أى شىء فى مجريات أحداثه إلا باستدعاء الخيال من جديد.
إنها لعبة إذن يعيشها إنسان اليوم فى حياة لا علاقة له بالحاضر وليس فاعلا فيها ومع ذلك لا يملك سوى رمى نفسه فى أحضان الماضى المتقادم والذى لا يريد نسيانه ولا يقوى على ذلك، لأن صورتنا عن الحاضر قاتمة فيها سخط وعتاب وإحساس بالقهر والرغبة فى الشكوى والأسى.
لم يعد حاضرنا يحرك فينا نشوة العيش والحلم من أجل المستقبل إلا بهوس الاستعداد له.
هكذا هى ملامح الأفراد تشكل صدى مجتمع يدعونا إلى التفكير فى التغيير والدعوة له مع بث الروح فيهم من جديد، كل جميل برمجناه بروح يائسة قاتمة صادمة، كل فرحة تماهت مع قرحة وخوف وترقب، كل جميل مع قبيح ينطق بتفكير مشوش.
لم يعد الإنسان يستعمل عقله إلا من أجل السواد والخوف والترقب وانتظار لطريق مسدود بروح باردة وحماس انطفأ وشموع لم يعد لها مكان فى زمن تشع فيه أضواء مزيفة.
عموما صرنا نشكو أمراضا اجتماعية تدق وتعلن عن ضرورة حب الحياة والدعوة لإنسان بروح جديدة تستطيع استطعام لذة الحياة من جديد.
قد نعتقد أن تواجد حياة الأفراد وصورتهم بعيدة كل البعد عن صورة المجتمع، ونسقط فى فخ السخط على واقع المجتمع والذى فى الحقيقة ليس إلا واقع الأفراد ليشكل واقع الإنسان فى عصره.
لكن سنظل أنا وأنت من يشكل هذا المجتمع ويبث الروح فيه من جديد بالكثير من الأمل فى غد أفضل ولن يتحقق ذلك إلا بتكرار المحاولة من أجل الرقي بنفوس تتنفس الصعداء وتعاني الاختناق ،قد تأبى العيش كلما اعتقدت أنه لا جدوى منها .
هكذا يكون مربط الفرس أكيد فى تحسين صورتى عن نفسى و الذى لن يكون بعيدا عن تحسين صورة المجتمع بل إنهما محايثان ومتلازمان لبعضهما البعض، فمتى أصيب عضو من الأعضاء كان على الجسد أن يعيش فترة نقاهة بأكمله.
سيظل حديثنا عن الإنسان هو حديث عن المجتمع وعن النوع، ستظل النزعة الإنسانية اليوم تفرض نفسها مع كل أزمة إنسانية كما يشهد لها التاريخ .
سيظل رواد التنمية الذاتية ودعوتهم لسماء صافية تكشف روعة تواجد اللون الأزرق والأبيض معا فى سماء انتهت دموعها مع انقضاء خريفها وشتائها ومع كل الغيوم التي كان لابد منها من أجل غد أفضل وصيف معطاء .
تأزم الإنسان فترة من الزمن تعيشه الإنسانية بين الحين والآخر وتستطيع تجاوزه بنزعة إنسانية تدعو لها العقول الراقية بعد الكثير من التأمل، قارئة للأحداث بصورة أجود وأصفى بألوانها الجميلة لتظهر العصافير من جديد لتسمعنا أنغام الحياة، دليل على وجود روح تتمتع وتستشعر كل جمال.
سنعود بفضل التنمية الذاتية إلى إنسان تاه مع زحمة الحياة فتشوش تفكيره ليعكس صورة قاتمة لكنها ستصفى بفضل حب الحياة وإرادتها وحب الاستمرار والإصرار على حب الذات المنسى فى كل الأقاويل التى تنصب نفسها أفكارا تخرج من أفواه الحكماء.
إرادة الإنسان للحياة تحتاج إلى من يخاطبها بفطرة صافية، لتزرع من جديد روح المبادرة والإصرار
لقهر المخاوف لأننا سنظل دائما نمتلك كل القدرات وسيظل الزمن يستسلم أمامنا ونهزم كل الظروف التى ستقتل إنسانيتنا ،سنلعب مع الحياة بمنطق لاعب الشطرنج الذى لن يقبل تشويش فكره مركزا على أهدافه وسيغير خطته وفق الظروف، لكنه لن يضيع أو يتوه.
وإن طالت شكوانا وإن أحسسنا بنوع من النكوص لحياتنا النفسية سيحرك فينا أطفالنا طبيعتهم التى لم تلوث الإحساس بكل ما هو جميل بداخلنا والذى أصبحنا نشعر بغربة اتجاهه وكأنه الغريب الذى يسكننا على نحو غريب.
لقد أخذنا الترحال إلى واقع حياتنا النفسية والذات الجماعية التي تعاني النكوص كمرحلة طبيعية لمراحل عمر الأشخاص والأمر سيان بالنسبة للمجتمع ليعكسان معا واقع إنسان اليوم. و لربما فى هذا الرجوع انطلاقة جديدة لواقع جديد ولبشرى بحياة أفضل، فالعظماء ينبثقون من الأزمات...يبدو أنه انتهى زمن الشكوى والحنين وحان موعد عودة الإنسان لإنسانيته ولم يعد الوقت أو الحاجة للبكاء على الأطلال الذى يقتل فينا روح المبادرة وسمو النفس وشموخها.
هكذا اختفى عالم الظلال والأشباح الزائف المرتبط بنور الشمس وظهر العالم الحقيقى الأبدى الخالد، هو حقيقة إنسان صادم للظروف وقاهر لها،شامخ أمام الآلام ومستفز لها...
هذا هو أنا وأنت أيها الإنسان بعدما استهوانا منظر النجوم في السماء بعيوننا فاخترقناها بعقولنا وإن ظلت بعيدة عنا نظرنا لها، لم يقهرنا جبروت الطبيعة أصبحنا أسيادا عليها بالفكر والعلم.
بالفكر والعلم اليوم سنعود إلى أوج العطاء بقهر الأفكار الصامتة والقاتلة لكل القدرات، وإن خضنا التجربة تعلمنا من النكوص أن الحياة ستستمر مع كل صيحة ديك فى الصباح إعلانا ليوم جديد وعلينا أن نتعلم منه وأن نصل إلى حقيقة مفادها كل شيء كما هو فيما مضى لكن نظرتنا إليه تغيرت بتشويش الفكر فتحية لزمن نكوص إنسان فى زمن مضى...