صالح المسعودى يكتب : بين المعاش والممات

السبت، 23 يونيو 2018 10:00 م
صالح المسعودى يكتب : بين المعاش والممات

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

مازالت كلمات صديق والدى تتردد فى أذنى حتى اليوم، فهو شخص محترم وكان يعمل فى جهة معروفة ولها وزنها على مستوى الدولة، لكن الرجل خرج على المعاش عند بلوغه السن القانونية، وبما أنه صديق عزيز لوالدى كانت وجهته الأولى بعد خروجه للمعاش لزيارتنا، فبادرته بكلمات بسيطة كنوع من التخفيف عنه فقد تأصلت عندى فكرة قديمة عن الذين يخرجون على المعاش وما يعانيه هؤلاء فى بقية حياتهم من جحود فى كل شيء بداية من انخفاض راتب لا يكاد يأتى بالعلاج لهذا المسكين وصولاً لجحود بعض الأبناء ( إلا من رحم ربى ) .

 

وأعود للقائى بصديق والدى فقد أردت كما ذكرت التخفيف عنه فقلت له ( متزعلش يا مصطفى بيه ) فرد بشكل أذهلنى وقال ( أزعل من أيه يا ولد دا أنا خرجت من المماتِ إلى المعاش) فبادرته بكلماتى المعهودة ( وكيف كان ذلك ) على طريقة كتاب ( كليلة ودمنة ) قال ( يا أبنى الوظيفة عبارة عن موت بطيء ) وضرب لى مثلاً فى غاية الغرابة حيث قال ( شوف يا ابنى جواب التعيين ده زى يوم ما ينزل الملك وأنت فى بطن أمك ( مع فارق التشبيه طبعاً )

 

لكن الرجل استطرد مكملاً حديثه ( الملك يا ابنى يكتب ثلاث أمور (عمرك ورزقك وشقى أم سعيد) أما جواب التعيين يا ولدى فيفعل شيء قريب من هذا ولكن مع الفارق طبعاً فهو يسجل لك ميعاد خروجك على المعاش وثانياً  يسجل لك مرتبك من بداية التعيين وبمقدورك ساعتها أن تحسب زياداتك السنوية حتى يكون بإمكانك حساب على أي مبلغ ستخرج معاش ، ولكن أنت فى الثالثة بالتأكيد ( شقى ) طالما أنت من محدودى الدخل فبأى مرتب أنت شقى قَل أو كَثُر هذا المرتب فأبواب إنفاقه تنتظره بحسب وضعك الاجتماعى ).

 

ولكن  كررت سؤالى له بكيفية خروجه من الممات إلى المعاش فأجابنى ( كما قلت لك يا ولدى الوظيفة هى موت بطيء فقد حرمتنى التزاور مع أهلى وصلة رحمى لانشغالى الدائم فى العمل وثقل المسؤوليات أما الآن فأنا حر طليق أتزاور مع إخوتى وأصدقائى وأفكر فى مشروع يشغل وقتى وأضع فيه خبراتى الحياتية وأعمل على زيادة دخلي حتى لا تجبرني الظروف في آخر عمري على الاحتياج للغير لأي سبب من الأسباب فأنا في سن الستين وهو بالنسبة لى ليس نهاية الطريق بل أحس بأننى بإمكانى العطاء سنوات وسنوات.

 

أنا أعلم عزيزي القارئ المحترم بأننى أطلت عليك فى سردى لتلك القصة الهامة من وجهة نظرى فقد خرجت منها برسالتين فى غاية الأهمية أولهما أنها تهم الكثير من تلك الفئة المجتمعية التى خرجت على المعاش ومعظمهم تقطع بهم السبل بكل ما تعنى تلك الكلمات من سوء فقد انخفض الراتب إلى أقل الربع تقريباً ( ولا أدرى كيف فكر المشرع فى هذا التقدير الظالم لتلك الفئة ) فهذه الفترة العمرية على وجه الخصوص  تحتاج للرعاية مصداقاً لقول نبينا صلى الله عليه وسلم ( إن صح عنه ) مازالت أمتي بخير ما وقر صغيرها كبيرها ( الحديث ) ومن أهم مظاهر التوقير أن تحترم آدميته فلا تتركه فريسة المرض والفقر بعدما فقد شبابه وصحته فى خدمة وطنه فكان لزاماً على أهل القرار وأهل التشريع أن يُنزِلوا هؤلاء أفضل المنازل حتى يُطمئنوا الذين لايزالوا فى الوظيفة أن كرامتكم محفوظة فى حالة خروجكم على المعاش بدلاً من دفعهم للاستفادة من مناصبهم للتربح منها فى محاولة فاشلة وخبيثة لتأمين مستقبلهم، فالعالم المتحضر يضع تلك الفئة فى أفضل المنازل وتصبح متطلباتهم فى مجملها بشكل مجانى يقيناً منهم بأهمية تلك المعاملة الكريمة.

 

والرسالة الأخرى التى يجب أن تصل لشبابنا بأن عليهم أن يتركوا تلك الأفكار التى توارثناها بالقول المعهود ( إن فاتك الميرى أتمرغ فى ترابه ) فهذا الأمر قتل لأحلام وحياة الكثيرين من أهل الفكر وأهل الحلم، واقرأ تاريخ كل رجال الأعمال على مستوى العالم وأصحاب رؤوس الأموال فمعظمهم بدأ بحلم ومشروع صغير وكتب الله له النجاح بسبب إصراره على النجاح والأمثلة على ذلك كثيرة، وأنا هنا لا أمنعك من الوظيفة ولكن فكر أكثر من مرة بأن تلك الوظيفة هى موت بطيء فى كل شيء بداية من طموحاتك وأحلامك وصولاً لسرقة عمرك الذى يضيع بدون دراية منك ليأتيك السن القانونى لتخرج من هذه الدائرة المفرغة فى غاية الأسف على شبابك وأحلامك لتقول نفس قول صديق والدى ( لقد خرجت من المماتِ إلى المعاش) .                                                       










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة