استوقفنى ذات يوم حديث شريف مُعلق على حائط مُصلى كُليتى أثناء دراستى الجامعية بعد إجازة عيد الفطر فى ذلك العام، فقد قال رسول الله صل الله عليه وسلم : " لِكُلِّ عملٍ شِرَّةٌ، ولِكُلِّ شرَّةٍ فَترةٌ، فمن كانَت فَترتُهُ إلى سنَّتى، فَقد أفلحَ، ومَن كانت إلى غيرِ ذلِكَ فقد هلَكَ"، والشِرَّةٌ هو الحرص على الشيء والنشاط فيه والرغبة، أما الفَترةٌ فهى الضعف والانكسار، والسكون والانقطاع، ولا أٌخفى عليك يا قارئى العزيز أنه قد انتباتنى سعادة غامرة بقراءة هذا الحديث أتذكرها بكل تفاصيلها وأن أكتب هذه السطور، وكدت أطير فرحًا لأننى وجدت حديثًا عن النبى صل الله عليه وسلم يدعم حالتى وقتئذ ويبعث على اطمئنانى بأننى لست وحدى فيما أشعر به من ضعفٍ ووهن حيال العبادة، فقد سبقنى صحابة رسول الله صل الله عليه وسلم بالمرور بمثل هذه الحالة بعد قضاء موسم الطاعات والعبادات المكثف مثل الصوم والحج، فأجابهم بهذا الحديث الذى يؤكد ألن يلحق بى ضررٌ إذا أديت الفروض واسترحتُ من تأدية السُنن ولو لفترة، فقد كنت منهكة ولم أقدر إلا على تأدية الفروض من أثر العبادات التى تقترن بشهر رمضان المبارك، وما تتبعه من قلة النوم والخروج عن الروتين اليومى المعهود لنظام الحياة، وكنت ألوم نفسى على تكاسلى عن تأدية السُنن التى كنت أؤديها بكل شغف وحرص منذ أيام معدودة!
لقد استوقفنى هذا الحديث لاستيعابه طبيعة النفس البشرية، ولمَ لا، والقائل هو رسول الخالق عز وجل، فمن طبيعة النفس البشرية التقلب بين الحماس والنشاط والعمل والفتور والتقصير والكسل، ولعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الطبيعة؛ فقد أقر حديثه الشريف مؤكدًا وحدانية الخالق ووجوب الالتزام بفروضه التى لا تضاهيها فروض مع التأكيد أنه يُجاز فى السُّنن بالفترة لعدم المشقة.
وتأملت هذا الحديث جيدًا ورأيته دليلًا قويًّا على أن الإنسان صنعة الله بحق، فيعلم متى يجب إجراء صيانة على صنعته فيفرض صوم رمضان وحج البيت وغيرها من الفروض لشحن صنعته بطاقة إيمانية تحميها من زخارف الدنيا الخداعة، وهو يعلم متى تحتاج الصنعة إلى الراحة فيمنحها الرُّخص ولا يكلفها إلا بما تطيق، فلا يمكنها التفريط فيما فرض الله؛ لكنه مسموح لها بأخذ قسط من الراحة فيما سنَّ رسوله صل الله عليه وسلم، وهذا يعد من المظاهر البارزة لوحدانية الله.
ولما كان شهر رمضان شهر تكثيف العبادات وشحذ الهمم والتقرب بالطاعات والتنافس عليها شرع الله عيد الفطر ليدخل الفرحة على المسلمين، ويجمعهم على تكبيره وتوحيده وحمده وليبرز مشاعر فياضة من الوحدة والأخوة بينهم.
وقد شرع الله العيد لوصل ما انقطع من الأرحام والأقارب والأصدقاء، ففى هذا اليوم دعوة ربانية لتنقية النفس وتصفيتها وتطهير القلب والتخلص من الشحناء والبغضاء، وشرعه أيضًا للتكافل بين المسلمين ففرض زكاة الفطر لإغناء الفقراء ومنع ذل سؤالهم.
ومن مقاصد العيد تغيير نمط الحياة المُعتاد وكسر رتابتها فمن فطرة النفس البشرية التطلع على التجديد والتغيير فيحل العيد ليضفى نوعًا من التجدد ويصبغ الحياة بمسحة من الفرح والبهجة، ومن مقاصده أيضًا التوسعة على النفس والأهل والأولاد بالترفيه والمتعة الحلال واللهو المُباح.
ومن فوائد العيد فى زماننا هذا، الذى تغلب عليه المادية، استعادة التوازن المفقود بعد اختلال ميزان العلاقات الاجتماعية بسبب تكاليف الحياة الباهظة التى باعدت بين الأقارب والأصدقاء ليعيد أواصر الصلة بينهم.
وأخيرًا أود أن أقول أن للعيد نوعين من الفرح: فرحًا بسيطًا بأطايب الطعام وجديد الثياب ولقاء الأقارب والأحبة والاستمتاع بالعطلات، وفرحًا بطاعة الله ورضوانه والسير على منهجه.
ولا يسعنى إلا أن أقول: " سبحان الله الذى جعل لنا فى ديننا فُسحة.. فبالأمس كان الصوم واجبًا واليوم صار الصوم محرَّمًا.
أعاننا الله على طاعته واتباع منهجه."
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة