"قصة لم يكتبها إبسن" قصة جديدة لـ إيليا مقار

الخميس، 31 مايو 2018 07:00 م
"قصة لم يكتبها إبسن" قصة جديدة لـ  إيليا مقار الكاتب إليا مقار

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
جلست سارة فى المكان المخصص للانتظار خارج "غرفة الاعتراف"، تعقد قدميها، وتعتصر أصابعها كتاباً تطويه، وكأنها تتشبث بمحتواه الذى دفعها لهذه الحافة، التى ما كانت تعتقد أنها قد تصل إليها يوماً، كان ما بين يديها هو نص لمسرحية "بيت الدمية"، تلك المسرحية التى كتبها النرويجى هنريك إبسن عام 1879، كان غلاف الكتاب العتيق يحمل- تحت اسم المسرحية - اسم "مكتبة الطلبة". كانت المكتبة تبيع نسخ مقلدة للكتب المقررة بثمن زهيد، يناسب حال معظم الطلبة، خاصةً طلبة كلية الآداب التى عادة ما تكون أسعار كتبهم المستوردة باهظة الثمن. كان ذلك فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى عندما التحقت بجامعة القاهرة لدراسة الأدب الإنجليزى. 
منذ درست سارة المسرحية وهى تشعر برابط قوى بينها وبين "نورا" بطلة المسرحية، تلك السيدة الجميلة المتفانية فى
 
خدمة زوجها وأولادها الثلاثة، والتى تكتشف مع أحداث المسرحية أنها الزوجة المدللة طالما أطاعت، والأمنة طالما خضعت. وعندما ظن زوجها أنها قد أخطأت فى حقه، سقط قناع الحب، لتكتشف نورا أنها عاشت حياتها دمية فى بيت زوجها، كما كانت فى بيت أبيها. وتقرر نورا التمرد على دور الدمية وتتحدى تقاليد المجتمع الذى كان -أنذاك- يرى أن البيت هو المكان الطبيعى للمرأة، وأن انفصال المرأة عن زوجها، هو دليل على سوء سلوكها. وفى مشهد النهاية، اختارت نورا الإنسان أن تسحق نورا الدمية وهى تخبر زوجها بأنها ستخرج ولن تعود. وتخرج نورا وتغلق الباب خلفها، ليصدر صوتاً يزلزل ذكورية أوربا كلها فى ذلك الوقت.
 
عشقت سارة تمرد نورا ورأت فيها انعكاسا لشخصيتها. قررت وقتها أن تبدأ من حيث انتهت نورا، ألا تكون ملكا لأحد، أن تعيش تفردها. كانت فى الجامعة تلك الفتاة الجميلة المتمردة المنطلقة، كانت سعادتها فى أن ترى أنظار الإعجاب من الجميع، الكل يرنو إليها دون أن يحظ أحد بشرف الوصول. فقط "سامح"، ذلك الشاب المتعلق بأهداب المجموعات الماركسية فى الجامعة، كان هو الشخص الوحيد الذى أدخلته إلى قلبها وعالمها، لم تكن تبالِ بأفكاره المتحمسة عن الفقراء والأغنياء وعدالة توزيع الثروة، كانت تبهرها حماسته دون أن تقتنع بأفكاره. ربما رأت أن اقتناعها بأفكاره هو تنازل منها عن تمردها ولم تكن مستعدة لذلك. 
تنبهت إلى أصابع سيدة تلمس كتفها برفق:
- مدام سارة، أبونا قدامه اعتراف واحد وبعد كده هييجى دور حضرتك. 
هزت رأسها فى امتنان دون أن تنطق. 
اقتربت الساعة من الثامنة مساء والمكان يعج بالناس، تتحول بعض الكنائس فى الخارج أحياناً إلى نادٍ يتجمع فيه المصريون ليمارسوا فيه مصريتهم، بإفراطٍ أحياناً. نظرت إلى هاتفها. اتصل زوجها عدة مرات وأدركت أنها لم ترد فاتصلت به. جاءها صوته مرتفعاً كالعادة:
- مبتروديش ليه يا بيبي؟
- آسفة مسمعتش، أنا فى الكنيسة هقابل أبونا وأروح
قهقه ثم قال
- "ربنا يهديكى علينا" ثم استطرد "البت هترجع البيت امتى؟"
- 100 مرة قولتلك مش اسمها "البت"، ماجى عندها 23 سنة دلوقتى، هى لسة فى تكساس عند صاحبتها. مش هترجع قبل الجمعة.
- حلو أوى. بصى؟ عاوز أروح ألاقيكى موهوجة وملعلطة كدة. متعمليش أكل، أنا هخلص شغل فى فرع الديلر وهجيب عشا والنبيت اللى بتحبيه. الليلة ليلتك يا صرصور ههههه.
أبعدت الهاتف بقرف عن أذنها ثم أعادته وقالت:
- باى 
لملمت سارة أطراف فستانها– أحد منتجات جورجيو أرمانى الباهظة الثمن- وضمته بغضب تحت رجليها. كيف بدأت حياتها كـ "نورا" الثائرة فقط لتجد نفسها الآن "نورا" الدمية فى فستان أنيق واكسسوارات باهظة. تجاهلت صوت ينبعث داخلها لشاب اشتراكى مجعد الشعر، يذكرها بأن الإنسان هو حاصل جمع اختياراته مضروبة فى عدد الأيام التى يحياها، كانت لتتزوجه لو كان لديه خطة لحياته غير اللهث وراء مبادئ لحماية مجتمع لا يأبه بوجوده أصلاً. تتذكر مشهد النهاية الذى جمعها بسامح عندما قررت أن تتزوج الشاب الثرى الذى يعيش فى الولايات المتحدة. كانت تعتبر السفر فصلا من فصول التمرد على المألوف؛ صفعة الباب التى تعلن بها "كلايماكس" الحدوتة، وقمة أدائها لدور نورا، وسط تصفيق حاد من جمهور لم يحضر العرض، سوى فى خيالها فقط. 
هذا الحضن الأخير الذى جمعها بسامح مازال يقتلها، لا يبكى الرجل إلا بين يدى امرأة يعشقها، عجيب أمر هذا الحضن وقت الفراق، هو لحظة يقبل فيها العاشقان أن يكون الألم هو الدليل القادم على استمرار الحب، هو لحظة إعلان هزيمة الحلم على يد "الظروف" .. قال: بل لحطة هزيمة الحب على يد الحياة. 
 
أربعة وعشرون عاماً، لم تر فيها سامح، بل تجنبت أن تراه فى زياراتها القليلة للقاهرة خلال الأعوام العشرين الماضية. مازال خياله يبعث فى قلبها نبضات من النوستالجيا الممزوجة بالأمان والدفء والألم. لا تريده أن يراود خيالها وقد أصبحت نورا الدمية الغارقة وسط أكوام الماكياج، والملابس الفاخرة وتلك السهرات الممتعة مع أشخاص تستعين على جفاف حياتها بمزيد من الصخب والمجون، يمتلك زوجها عدة معارض لبيع السيارات المستعملة؛ بزنس يعتمد على النصب والاحتيال، وتقديم صورة غير حقيقية عن منتج لا يخلو من عيوب... تماما كزوجها، يستخدم زوجها قوامها الجذاب، وجمالها، ولغتها الإنجليزية المتقنة لزوم الوجاهة الاجتماعية، ويغدق عليها فى مقابل ذلك، لتدوم نضارتها، وجمالها، وأنوثتها .. فى خدمته.
 
ظهر لها سامح عبر الفيسبوك منذ عدة سنوات. عندها، بُعثت حياتها من جديد. امتلأ وجهه وجسده قليلا، مازال شعره غير مهذب تماما كأفكاره. شىء ما فى صور الماضى تجعلنا نبدو أجمل عندما نكبر، يبدو سامح أكثر حيوية وهو فى الأربعينات من عمره. سألته "هل ترانى تغيرت"؟ نعم.. "صرتى أجمل" هكذا أجاب. تفحصت صوره على الفيسبوك، وأدركت أنه يفعل نفس الشىء. أحست بالمتعة وهى تتخيله يتنقل بين صورها فى مناسبات اجتماعية، وحفلات موسيقية، تعكس ترف و"لايف ستايل" لم تجده فى "صوره". لم يتركها كثيراً لإحساسها بالانتصار. قال عبر الشات:
- حياتك تعكس تلك البرجوازية اللعينة. 
- اتكلم بالعربى من فضلك
- أنت تعلمين أن حياة متسلقى الثروات لا تروقنى، يظل الإنسان عبداً للمال، ويظل الإحساس بالفقر يطارده دون شبع!
- أنت فقط تدارى هزيمتك أمام اختياراتى!
- ربما هزيمتى وهزيمتك؟ 
هكذا تساءل وهى تعلم أنه لا ينتظر رداً، فقط يعطيها مساحة لتظن أنه قد يكون مخطئاً، يا له من كاذب حنون.
قال:
- هل يحبك؟
- بجنون.. لا يتوقف عن محاولة إرضائى
- هل تحبيه؟
تجاهلت السؤال.. 
نظر وكأنه يتجول ليرى حجرتها بعينيه عبر الكاميرا. قال:
- ما تلك الكتلة الزجاجية خلفك؟ 
انزاحت قليلا، ونظرت إلى حيث يشير، ثم قالت ضاحكة:
- زجاج يا جاهل؟ هذا تمثال لى نحته فنان فرنسى يدوياً من الكريستال الباكاراتى الخالص، قالت بفخر وبنبرة من التحدى لم تجد لها مبرراً "دفع فيه زوجى 10 آلاف دولار فقط من أجل أن ينهيه النحات قبل أن تنتهى إجازتنا فى فرنسا قبل عامين".
قال دون أن يعكس وجهه انبهاراً كانت تتمناه
- حلو أوى
- لأ شكله مش عاجبك
- يمكن.. التمثال كمان مش شبهك... يبدوا أن زوجك يجيد تحويل الأشخاص إلى تماثيل لامعة!
- أنت سافل. اعتذر
- لا
- اعتذر
- آسف
- أسفك غير مقبول! الأسف بهذه السهولة يضايقنى أكثر. مجرد رغبة فى التخلص من الموقف.
- مازلت أعشق اهتمامك بتفاصيل ألفاظى وسكتاتي. 
حاولت ألا تفعل ولكنها ابتسمت.. فابتسم.. 
كانت فترات ال "شات" دبيب جيوش فاتحة تعلن استعادة مناطق الحياة فى قلب سارة الدمية. كانت بالنسبة لها وكأنها فرصة تصحح فيها مسار حياتها، فرصة لتعيد قطار حياتها ليسير على نفس القضبان التى سارت عليها حياة "نورا"، لتنتهى فى نفس المحطة: محطة انتصار سارة الإنسانة. ولكن شيئاً ما فى داخلها يجعلها تشعر بأن وقت التصحيح قد فات. أليس من الجنون أن نعيد مشاهدة فيلم، ثم -وبحماسة شديدة- نترجى نهاية مختلفة؟ لقد تخلت عن سامح فى الماضى من أجل تمردها، فكيف يمكن أن تسترده الأن وقد فقدت نفسها. 
كيف يعيد الحب نضرة الحياة إلينا بهذه السهولة: لماذا لا تشعر بالذنب تجاه زوجها؟ هل احتلتها نشوة الحب فلم تدرك أن حبها قد يكون خطيئتها؟ أم أن الحب هو تلك المشاعر الأعلى قداسة فى ذاتها؟ أليس الحب هو الصواب المطلق؟ والحق المطلق؟، والحلال الأسمى الذى يقدس ويطهر؟ أليس الحب هو الله؟ كيف يكون الله حراماً؟
فى هذه الفترة عندما بدأت التواصل مع سامح، لاحظ الجميع حيوتيها وإقبالها على الحياة. كانت ابنتها فى ذلك الوقت فى الثامنة عشر من عمرها. سألتها يوما:
- ماما لقد تغيرتى كثيراً. حب جديد؟ 
ابتستمت سارة وضمت شفتيها دون أن ترد. فعاودت الإبنة السؤال وهى تضحك بحذر:
- ماما؟؟؟ حب جديد؟!
- ربما؟ هكذا قالت سارة وهى تضحك أيضاً وكأنها تبوح لابنتها بصدق إحساسها
انتفضت الإبنة واقفة بوجه صارم:
- ماما حتى لو كنتى تمزحين فهذا غير مقبول. 
استطردت:
- هل تظننينى عمياء؟ أصبحتى طوال الوقت مرتبطة بهاتفك بطريقة مريبة، كنتى ستتسببين فى حادث منذ عدة أيام بسبب انشغالك بالتراسل عبر هاتفك أثناء القيادة. لم تكونى أبداً هكذاً... أقسم بأننى سوف أخبر أبى إن شعرت بأنك ستهدمين هذا البيت. 
اقتربت قليلا من أمها وتابعت والغضب يتطاير من عينيها:
- لن أسمح أن تتلوث سمعتى أو أن تتركى أبى وتفسدى سمعتنا بسبب أنانية أم على وشك العجز.
تركتها وصفعت الباب خلفها دون أن تنتظر جواباً. كانت لحظة كافية لتملأ قلب سارة بالرعب، ولتعلن مرة أخرى.. وربما أخيرة.. هزيمة الحلم فى معركة الواقع... تركت سامح واستعادت سارة الدمية. 
- مدام؟..... مدام سارة؟ ....أبونا منتظر حضرتك. نبهتها نفس السيدة.
أخرجت سارة غطاء شعر أبيض من حقيبتها وفردته على شعرها. قرعت الباب ودخلت، كان "أبونا" الشاب يجلس خلف مكتب أمامه كرسيين من الجلد وفى الناحية المقابلة مكتبة بارتفاع الحائط يدل عدم انتظام أرففها على أن أبونا يلجأ إليها بكثرة. تعرف سارة أبونا منذ سنوات عديدة. حضر من مصر إلى الولايات المتحدة طبيباً شاباً، ثم ما لبت واجتهد فى امتحانات المعادلة حتى أصبح طبيبا فى الولاية. ثم اختار أن يترك كل هذا ويصير "قسا" للكنيسة فى الولاية التى تعيش فيها. لم تكن له آراء صادمة تذكرها ولكن كان فى شخصيته سلام ما يدفع الجميع لمحبته. 
جلست فى المقعد الجلدى فى الناحية الأخرى من المكتب. قال بابتسامة مطمئنة:
- سارة.. من زمان مجيتيش اعترفتي. سنتين تلاثة تقريبا؟
هزت رأسها بالإيجاب. سألها:
- ماجى عاملة إيه دلوقتي؟
- مع الوقت بتبقى أحسن الحمد لله.
أغمض عينيه فأغمضت عينيها. وبدأ يتمتم بصلوات لم تسمعها جيدا.. كلمات عن الخطيئة والغفران.. وقبول الخطاة.. أنهى صلاته وقال:
- ربنا بيحب أننا نرجعله، ويحب أننا نتوب وأكيد...
نزعت المنديل الأبيض عن شعرها، وقاطعته بأدب..
- أبونا.. أنا مش جاية أعترف... أنا جاية أعرف..
نجح أبونا فى أن يخفى انزعاجاً خفيفا.. 
- تعرفى إيه؟
- أعرف ليه ربنا خلقني.. ليه هتحاسب وأنا مش حرة.. وأنا عبدة للمسموح والممكن.. ليه ربنا أدانى حياة واحدة بس مقدرش أغير فيها حاجة..
سكتت لبرهة وكأنها تحاول ألا تستسلم لمزيد من التفاصيل.. خذلتها دمعة فتركتها تسلك رحلتها على خدها... أكملت:
- ليه عليا أفضل أمثل دور زوجة مع زوج مش قادرة أكمل معاه.. ليه لو غيرت حياتى هكون أنانية، إنما لما المجتمع يفرض عليا حياة مش عاوزاها، ميبقاش المجتمع أنانى؟ 
انتزع أبونا منديلاً ورقيا ومده إليها فلم تأخذه.. ربما رفضاً لأن تعترف بأنها تبكى.. أو بأنها على وشك الانهيار... قام أبونا الشاب من مقعده خلف المكتب وجلس فى المقعد المواجه لها.. قال بصوت يظهر بعض الاضطراب:
- سارة؟ ...فى حاجة بينك وبين "الباشمهندس"؟
هكذا كان يناديه الناس فى الكنيسة والمجتمع المصرى الضيق رغم أن الزوج لم يكمل تعليمه الجامعي..
- أبونا.. أنا مش قادرة أعيش حياتي.. حاولت سنين.. ده مش كفاية؟ 
اعتصرت نسخة مسرحية "بيت الدمية" بأصابعها أكثر .. نظرت نحو صورة معلقة على الحائط للسيدة العذراء .. واسترسلت..
- أنا مش مريم.. وهو مش مسيح... أنا بس رافضة أقنعك أنى تعبانة عن طريق أنى أطلعه وحش.. أبونا.... 
انهار حائظ دفاعها الأخير.. شهقت باكية...
- أبونا أنا بموت.. 
انعقد حاجبى أبونا الشاب فى قلق.. 
- طيب جربتوا تتكلموا؟ تعملوا Couple Therapy؟ أنا ممكن أحاول أتكلم ....
قاطعته...
- أبونا.. هو أصلا لو عرف أنى اتكلمت معاك هتبقى مصيبة... صوته الغاضب لما أقوله أنى تعبانة، ويقولى "مالك؟!..عيشى" .. مش بيخلينى أعرف أتكلم معاه. حتى أمى لما أشتكيلها.. تقولى نفس الكلمة .. "عيشى"... تعرف إحساس لما تعيش مع حد بيحسسك كل يوم أنه اشتراك؟ لما أقوله أنى مش سعيدة، يجيبلى حاجة غالية أكتر، وكأنه بيقولى أنا أقدر أدفع فيكى أكتر!.. خلاص!.. مش قادرة أكمل حياتى كده.. 
مال ناحيتها أبونا قليلا وقال بصوت هادئ حنون..
- سارة أنتى عايشة حياة ناس كتيرة تحسدك عليها... أكيد فى حاجات كويسة وإلا مكنتيش استحملتى لحد دلوقتى، تعالى على نفسك شوية وهو ييجى على نفسه شوية.. الأمور أكيد هتمشى.. 
سكت أبونا وكأنه يفكر فى حيلة أخرى. قال بشىء من التحدى، وكأنه يضعها فى اختبار أمام قناعاتها..
- عاوزة تتطلقى؟ ممكن الكنيسة مش هتوافق. بس محدش هيمنعك... أشار إلى باب الغرفة.. تقدرى تفتحى "أُكرة " الباب ده دلوقتى، وتخرجى وتطلبى الطلاق والقانون هيقسم ممتلكاتكم بينكم زى ما انتى عارفة..
ساءها تحديه فانتفضت واقفة
- أنت عارف أُكرة الباب دي؟ أُكرة الباب دي، فيها ألفين سنة من الحرام والحلال، اللى علمتوه ليا ولغيرى.. أُكرة الباب فيها اختيارات قليلة أوى يا أبونا.. 
- سارة إنتى جاية تحاكمى ربنا؟ (قال وكأنه يوقظها من أفكارها)
- أنا جاية أحاكم الدين والمجتمع والتقاليد.. بتوعظ الناس أن ليهم إرادة حرة.. بس إزاى يكون لينا إرادة حرة لو مفيش اختيارات؟ 
وقف أبونا فى اضطراب... ثم تحرك نحو الباب وفتحه قليلا ووقف ينظر نحو الرجال والسيدات المنخرطين فى أحاديث صاخبة وقال بهدوء دون أن ينظر ناحيتها..
- سارة..تعرفي؟ كل واحد وواحدة من دول عنده قصة.. حكاية.. اختيار مش قادر عليه.. كل واحد منهم بييجى هنا علشان أقنعه أنه مكمل علشان ربنا.. علشان الدين.. علشان الصح والغلط.. مش علشان مش قادر يدفع تمن التغيير..
نظر ناحيتها وهو يغلق الباب وأكمل:
- كل واحد عاوز يعيش دور الضحية... وعاوزنا ندفع الثمن. وأنا مستعد أعمل كده..
وضعت الكتاب بعنف على المكتب وقالت محتدة..
- لاً.. أنا عاوزاك تنزع من عقلى كل دروسك عن الحلال والحرام.. السما والجحيم... النار والعقاب... الموت والحساب .... عن طاعة الزوجة وخضوعها...ولو مش قادر؟ انزع من أحشائى إحساس ست بتكره لمسة زوجها... أنفاسه.. إحساسها بالاغتصاب الحلال. انزع من قلبى إحساس جارية سيدها مش بيهتم أنه مرة واحدة يقعد يخاطب عقلها إلا لو الكلام هيوصله للسرير...
أشارت نحو الباب وقالت وقد ارتفع صوتها أكثر.. 
- انزع من الناس دى دروسك عن الحلال والحرام، وازرع فيهم دروس عن حرية الإرادة، وحرية الاختيار، وأن هدف الدين هو سعادة الإنسان مش تعاسته.. يمكن وقتها أقدر أختار.. أنا..
قطع كلامها الجاد الحاد صوت طرقات على الباب.. أطل كاهن متقدم فى العمر برأسه من الباب.. كانت سارة تعرفه جيداً ويعرف أسرتها.. دخل الكاهن الحجرة دون استئذان وقدم يده التى تحمل الصليب نحو سارة فقبلتها.. قال:
- خير يا أبونا.. صوتكم طالع برة ليه.. الناس تجول علينا أيه؟ ازيك يا مدام سارة وازاى الباشمنهدس..؟
هكذا تحدث بلهجة صعيدية يحرص على ألا تفارقه.. كان أبونا الشاب قد وقف له احتراماً بينما ظلت سارة جالسة وهى تدفن وجهها بين راحتيها.. سألها:
- ماجى برضو ركبت دماغها وسابت جوزها؟ 
هزت رأسها بالإيجاب دون أن تنظر نحوه. 
أدرك أبونا من صمت سارة، أن هناك موضوعا جد خطير. فأعاد سؤاله بفضول؟
- محدش عاوز يجولى صوتكم عالى ليه؟ خير يا أبونا؟
ظلت سارة ساكتة وكأنها تسمح للكاهن الشاب أن يقدم بعض التفسير يشبع فضول الرجل
- أبداً....، (ثم قال بتردد).. مدام سارة تعبانة شوية... فى حياتها...
- ولما مدام سارة تبجى تعبانة فى حياتها، أمال إحنا نبجى أيه؟ 
هكذا قال ثم ضحك.. وعندما لم يشاركه أحد الضحك.. استرد ملامحه الجادة.. تقدم أبونا الكهل خطوات نحو الشبابيك الزجاجية التى تطل على مكان انتظار السيارات.. أزاح ستارة بيضاء قليلا ًعن أحد النوافد ثم قال..
- إلا هو العربية المرسيدس البيضا اللى تجفل عين الشمس دى بتاع مين يا أبونا... وتسوالها كام؟؟
لم يجب أبونا الشاب وقد ضم شفتيه أملاً فى أن يتوقف أبونا الكهل عن الحديث... عاد الرجل خطوات ناحية سارة ثم ضغط ضغطة خفيفة.. ولكن حازمة على كتفها...
- متخربيش بيتك يا بنتي.. عيشى يا بنتي.. عيشي...
انتفضت سارة واقفة.. اندفعت نحو الباب خارجة.. شقت طريقها وسط الناس وقت تحول صخبهم إلى همهمات .. مصمصت النساء شفاههن.. وتطلع الرجال إلى جسدها بمزيد من الشغف.. فدائما ما يحسب الذكر محدود الرجولة المرأة المحطمة صيداً سهلا لا يمتلك شجاعة مطاردته فى الأوقات العادية...
أدارت سارة سيارتها الفاخرة واندفعت والدموع تغطى عينيها نحو المنزل.. خلعت حذاءها عند الباب وسارت حافية على أرضية الدور الأرضى الرخامية الباردة الخالية من المشاعر.. تمسكت أذرعها الواهنة بحافة السلم الداخلى وهى تصعد نحو غرفتها.. لم يكن زوجها قد عاد الى المنزل بعد... جلست أمام مرآتها، لتشاهد حطام امرأة، تسيل خطوت الماكياج السوداء مع دموعها، فيظر وجهها كسجينة خلف قضبان طولية سوداء .. 
لم يكن لديها خطة لأية خطوة قادمة....بعد قليل سيأتى زوجها.. كالعادة يريدها فى كامل زينتها .. سيدخل من الباب مستعداً لالتهام جسدها.. سيناديها باللفظ الذى يعلم أنها تمقته: "صرصوور".. ستخرج له فى قميص نوم حريرى فاخر.. وترفع له يديها مرحبة من الطابق العلوى كما عودها أن تفعل.. 
استدارت ووجدت تمثالها الكريستالى ينظر ناحيتها فى جمود.. دفعته دفعاً إلى الأرض فسقط محطماً إلى أشلاء تشبهها.. استخرجت قميصاً حريريا طويلاً وارتدته... جلست إلى المرآة... أزالت الماكياج القديم.. وطفقت تضع زينتها وهى مازالت تبكي... جاءها صوته من الدور السفلى وكأنه الموت..
- صرصووور..
وضعت أدوات مكياجها فى وهن.. تقدمت نحو سور الدور العلوى .. رأها ففتح ذراعيه لها وهو ينظر لأعلى ويعض على شفته السفلى عضة قبيحة ذات مغزى.. أما هى .. فتقدمت.. وفتحت ذراعيها .. وتقدمت أكثر.. وتركت جسدها يهوى من الدور العلوى ليسقط أمامه...
 
انتهت الصلوات أمام الجسد الجميل المنهك المحفوظ بعناية داخل صندوق فخم. كان الزوج قد أصر على تأجيل الجنازة حتى يتم تطعيم الصندوق بالأبانوس وماء الذهب...الجميع يواسى الزوج والابنة فى رحيل السيدة التى تعثرت فى ردائها الحريري.. غادر الجمع إلى سياراتهم بتراخٍ مصطنع تجنباً لأمطار بدأت فى التساقط وكأنها تأمرهم بالمغادرة.. انتظر عمال المقبرة ريثما يغادر أيضاً ذلك القس الشاب الذى ما زال متوقفا بإجلال أمام الصندوق.
 
مد أبونا يده فى عباءته.. وأخرج نسخة لكتاب قديم.. يقول غلافه " هنريك أبسن..مسرحية بيت الدمية... مكتبة الطلبة.. جيزة.. سبتمبر 1990 "... وضع أبونا الكتاب بعناية ومهابة على الصندوق..ومسح دموعه وقد بدأت الأمطار فى التوقف.. وكأنها تطالبه بالبقاء قليلا....
ستار.






مشاركة



الموضوعات المتعلقة


لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة