فقر النفوس

الجمعة، 25 مايو 2018 11:45 م
فقر النفوس داليا مجدي عبد الغني

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أي علاقة في بدايتها تكون مُحاطة بالانبهار؛ لأن كل طرف يكون لديه شغف لمعرفة الآخر والوصول إلى تفاصيله، لذا لا تشوب الحوارات الملل، ولا يجرح أحد الآخر، فكل منهما يكون حريصًا على مشاعر الآخر، والاهتمام يكون مُبالغًا فيه، فإذا ما تلاقت الأفكار وتم الاندماج، تأخذ العلاقة شكلاً معينًا، فإما أن تكون حُبًا، أو صداقة، أو عملاً، أو زواجًا،  أو غيرها من العلاقات الإنسانية، ولكن تظهر الأزمة بعد رسم الشكل النهائي للعلاقة، فلون أن الطرفين ظلا حريصين على بعضهما البعض، بل وازدادت النواحي الإيجابية بينهما، فهذه ظاهرة صحية، ودليل على أنهما مستقران نفسيًا، فإن شَذَّ أحدهما عن القاعدة، وبدأ في الاستهتار بالآخر، والملل منه، وربما لو تطور الأمر إلى حد الزهد، وربما الغدر، فليس على الطرف الآخر سوى الانسحاب بهدوء؛ لأن هناك أمور لا تُطلب من الآخرين، مثل الاهتمام، والحب والإخلاص، والشعور بالسعادة، والراحة النفسية، فهذه أشياء تحدث من داخلنا، لا يمكن أن نشترطها أو نطلبها، ومن يتمسك بعلاقة فيها طرف مُتقلب بلا أسباب، ويستمتع بإيلامه للآخر، فيكون بذلك قد خرج عن المنطق، فأخلاق الإنسان لا تظهر في البدايات؛ لأن بداية أي شيء تكون الخطوات فيها محسوبة ومُقننة؛ لأنه يكون مُقْدمًا على المجهول، ولكن تظهر حقيقته بعد أن ينقشع هذا المجهول، ويشعر بالأمان، فهنا يظهر من هو، فلو ازداد تمسكه بالطرف الآخر، وتزايد اهتمامه به، وبدأ يُقّدِّره، فهو شخص يستحق التقدير حتى النهاية، ولو ظهر العكس، فعلى الطرف الآخر أن يتيقن من أنه كان يتعامل مع مُمثل بارع على مسرح الحياة، وهنا لا مفر من الانسحاب بهدوء.

 
فيُحْكى أن ملكًا عظيمًا كان بين الحين والآخر يتحدث مع رعاياه مُتخفيًا، وذات مرة اتخذ شكل رجل فقير، وارتدى ثيابًا بالية، وذهب إلى أفقر أحياء مدينته، وهناك اختار أكثر البيوت فقرًا، وقرع الباب، وعندما دخل، وجد رجلاً يجلس على الأرض وسط الأتربة، فجلس بقُربه وأخذا يتحدثان معًا، وتكررت هذه الزيارة عدة مرات، حتى أن الفقير تعلق بالملك وصارا صديقين، وكان يحكي له عن أسراره، وأتعابه كلها، وبعد فترة من الزمن، قرر الملك أن يُعلن لصديقه عن حقيقته، فقال له: "أنا لست فقيرًا مثلك، فالحقيقة أنني الملك، إنك تستطيع أن تكون غنيًا، وإنني أستطيع أن أُصدر أمرًا بتعيينك في أعظم وظيفة، اطلب ما شئت، وأنا أُحققه لك"، فأجابه الفقير: "ما هذا الذي فعلته معي يا سيدي؟ أتترك قصرك، وتتخلى عن مجدك، وتأتي لتجلس معي في هذا الموضع الفقير، وتُشاركني همومي، وتُقاسمني أحزاني؟ لقد قدمت لكثيرين من رعاياك عطايا ثمينة، أما أنا فقد وهبت لي ذاتك، إن طلبي الوحيد أن لا تحرمني منك، وأن تظل دائمًا صديقي الذي أحبه ويُحبني". واستجاب الملك لطلبه؛ لأنها كانت رغبة متبادلة.
 
وبالفعل ، إذا شعر الإنسان أن من أمامه لا يُقّدِّره، وأصبح يمل من وجوده، ويختلق الحجج للابتعاد عنه، فما عليه سوى أن يعود إلى قصره؛ لأنه في هذه الحالة يكون ملكًا مُتوجًا، تعامل مع شخص فقير، والفقر هنا ليس فقر المال؛ بل هو فقر الإحساس، وفقر الصدق، فهذا هو الفقر الحقيقي.
 
فنصيحتي لكم، أن تُصادقوا فُقراء المال، فهذا لا يعيبهم، ولكن لا تصافحوا فقراء النفوس، حتى لو كانوا ملوكًا، فمُلكهم زائل، أما فقرهم دائم ومُلازم لهم في كل زمان مكان.
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة