ألقيت عليه تحية تليق بسنّه الكبير وحالته الرثة، ردّ بغمغمة كأنما ينفى عن نفسه تهمة تجاوز الثمانين بقليل، ضاحك الثغر، لا يزال يحتفظ ببعض أسنانه، حريص على تدخين سجائر، يلفّها بيديه، بعض من تبغ و وريقة " بفرة " يُخرجها من عُلبة صفيح صدئى بجيب داخلى .
كان يستوطن رصيف الطريق السريع، طلبا للراحة، وتدخين سيجارة من صنعه، رآنى مقبلا ناحيته فأشار بيديه: كأنما ينادينى.!
مدّ يده، أدركت أنه يريد النهوض، فساعدته، وجدت قبضته حديدية، عصّر يدى بقوة لا تناسب عمره المديد، سرنا سويا، سألته: إلى أين؟ هل أعبر بك الشارع؟ أليس لك أهل أصلك بهم؟ ثم عبثت بجيوبى بحثا عن "فكّة" أحتفظ بها لمثل تلك المناسبات .
حديث متدفق من ناحيتى، صمت مطبق ونظرة تموج بعجب وغضب على وجهه، نطق عبارة حادة صكّ بها أذنى، بدا أنها قد اخترقت أسماع المارة: أراك تثرثر كثيراً، ألا تتوقف عن الحديث ؟! ثم وكزنى بيده بكتفى فأحسست بوخزة شديدة، قائلا : للحديث آداب ينبغى أن تعيها.
عفوا أيها الشيخ، ما أردت إلاّ مساعدتك .! فهل تجاوزت معك ؟!
قطب جبينه، نفض بعض غبار علق بجلبابه القديم، وصلنا للجهة المقابلة للشارع، فأشار لبناية قديمة، تتدلى على واجهتها لافتة باهتة الكتابة "مكتب الشهر العقارى النموذجى"، توقف، ثم همس: هذا فراق بينى وبينك.
مضغت الهواء تحت أضراسى غيظا، زاد عجبى، حينما لمحنا شخص من الداخل، هبّ كأنما رأى عزيز قوم، تنادى على زملاء له، فهُرعوا جميعا، وقفوا بين يدى العجوز بكل إجلال، بعضهم خطف قبلة سريعة من يديه .
سألت: من هذا الرجل؟! من يكون؟! انسابت نظرة شفقة ناحيتى، ثم أحسست بشيء براحة يمينى، أودعه أحدهم، كانت بعض من عملات معدنية صغيرة .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة