مشهد عبثي من الطراز الفاخر ، فصائل مسلحة وجماعات متقاتلة هنا وهناك ، الجميع يقاتل الجميع على قطعة أرض واحدة جُرفِت حدودها تحت رايات سوداء وارتوت بنهر دماء لم تشهده المنطقة برمتها منذ الغزو التتري الذي ردم نهر الفرات بكتب أفذاذ العصر الذهبي للأمة .. إنها الأزمة السورية !
غداً أو بعد غد ، ستضع تلك الحرب أوزارها يوماً وستجد الأمة السورية نفسها أمام خمسة تحديات كبرى أتنبأ بها .
بناء النظام السياسي المناسب أهم تحدي، إما أن يجمع كل التيارات السياسية وأذرعها العسكرية المقاتلة تحت علم واحد في انسجام وتناغم، أو انفراد تيار واحد بالسلطة مما يعني إقصاء الأخرون.
السيناريو الأول شديد الصعوبة بسبب لعب القوى الدولية وبالأخص روسيا وإيران والولايات المتحدة الأمريكية دور الحاضنة لتلك التيارات بما يخدم مصالحهم الإقليمية الكبرى، وكافة الخلافات بين هذه القوى ستكون حاضرة بلا شك داخل حكومة الوفاق السياسي إذا رأت النور، فأغلب تلك التيارات دُمية في أيدي القوى الدولية.
وبغض النظر عن البعد الدولي لهذا الأمر، فالأيدولوجية السياسية والدينية للتيارات المتقاتلة في سوريا يصعب الوفاق أو الجمع بينها تحت مظلة واحدة ، وإذا استبعدنا داعش وأبناءها في جبهة النصرة المنبوذين دولياً واقليمياً واستبعاد الأسد نفسه بعد الحرب ، فقوات سوريا الديموقراطية والجيش الحر يتناقضان في إنفصال الجزء الكردي من سوريا على سبيل المثال .
ليس لغزاً .. إيران وروسيا من جانب والولايات المتحدة ودول الخليج من جانب أخر يشكلا طرفي المعادلة الأساسيين وبالمنتصف تترنح تركيا بدور مختزل في مقاتلة البشمرجة لضمان وحدة أراضيها المهددة بالانشطار إذا ما نال مسعى الأكراد حظاً .
والسيناريو الثاني أشد صعوبة لأن انفراد تيار واحد بالسلطة يعني استبعاد الأخرون ، ذلك الاستبعاد الذي سيضمن توافر بعد الحرب ذات العوامل التي قادت مباشرة إلى الحرب السورية بل وإلى كافة الانتكاسات السياسية في المنطقة العربية منذ عقود .
إعادة البناء لما دمرته الحرب تحدياً ثانِ ، وتكلفتها الاقتصادية هائلة جدا ً وتقدر بتريليونات الدولارات نظراً لحجم الدمار الشامل في البنية الأساسية والمنشآت علاوة على نزوح العلماء والكوادر الفنية والتعليمية ورأس المال من سوريا .
السياسة الخارجية السورية بعد الحرب سؤال وتحدي، لعقود طويلة ظلت دمشق تدور في فلك روسيا وإيران ومع تزايد الخلافات الروسية الإيرانية من جانب ودول الخليج العربي وأمريكا من جانب أخر، سيكون صياغة سياسة خارجية سورية ترضى الطرفين تسوية عثرة ، إلا إذا تبنت سياسة عدم الانحياز أي الحياد على الساحة الدولية وهو ما سيكلفها خسارة الحلفاء القدماء بلا شك وقد تواجه باعتراض أحد الطرفين .
ثم يأتي تحدي الجيش والأمن السوري ، فمع ميلاد الجيش السوري الحر في يوليو 2011، انتشر السلاح هنا وهناك داخل الأراضي السورية بين أيدي المقاتلين سواء موالون لنظام بشار الأسد أو مناهضون له .
إعادة بناء جيش سوري وطني موحد سيصبح ضرورة وصعوبة، والوصول لصيغة توافقية سيكون تحدياً كبيراً مرتبط إلى حد كبير بالوفاق السياسي المفترض أن تسعى له دمشق بعد الحرب لبناء جيش نظامي يحرس ويعيد فرض النظام والانضباط على الحدود الدولية.
وبعيداً عن الجيش ، إعادة فرض الأمن داخل البلاد يعد تحدياً يستلزم نزع ومصادرة السلاح من جميع المتقاتلين ، أما مصير الأجانب المجندين بينهم يظل سؤالاً !.
ولا يمكن نسيان التكلفة الاقتصادية الهائلة لإعادة بناء الجيش ونزع سلاح ما دونه بمرحلة ما بعد الحرب .
وأخيراً.. المسألة الكردية المزمنة، هو تحدي لا يرتبط بسوريا وحدها وإنما بكافة الأماكن التي يقف عليها قدم كردي يحمل حلماً طاف وجاب أذهان الكرد ويتلخص ببناء دولة كردية تلم شملهم تحت علم واحد وداخل حدود دولية واحدة.
ولهذا المسعى تاريخ طويل ضارب بالمنطقة يحتفظ به أبناء هذا العرق وتورط مباشر في التطورات السياسية لصعود وسقوط الدول، لغة وتاريخ وتقاليد وأساطير تتداولها الأجيال وأعياد وزي مشترك بينهم لقرون.
وتعتبر الحرب العالمية الأولى المحطة الأهم على الاطلاق في تاريخهم عندما هُزمت العثمانيين وحلفائهم الألمان، وبات تقسيمهما المصير، ففُرِضت معاهدة سيفر على السلطان العثماني عام 1920 لتفتيت الامبراطورية والاعتراف بدولاً ناشئة على جثتها، هذه المعاهدة أعطت الأكراد لأول مرة الحق في الاستقلال خلال عام إذا ما طلبوا إياه وظلت حجة قانونية راسخة بأذهانهم إلى اليوم لوجود "دولة كردستان".
لكن سرعان ما تصدر كمال أتاتورك المشهد محققها انتصارات سياسية وعسكرية جارفة على السلطان داخل وخارج تركيا انتهت بإلغاء "الخلافة" وكل ما وقعت عليه من اتفاقيات خاصة "سيفر" لتجتمع بريطانيا وأتاتورك أخيراً على أرضية واحدة بمعاهدة لوزان عام 1921، وضاع حلم كردستان إلى اليوم.
تحديات خمسة ثقيلة تتطلب وفاق دولي واقليمي وحلاً مرضياً لكافة التيارات داخل سوريا.. فهل ستشكل "سوريا بعد الحرب" أزمة أكبر من أزمة الحرب نفسها! سؤال حرج يبحث عن إجابة اليوم ويفرض واقع أشد صعوبة غداً.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة