مروة مجدى تكتب : "اليوم الأخير"

الخميس، 29 مارس 2018 02:00 م
مروة مجدى تكتب : "اليوم الأخير" صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كنت أجلس منذ الصباح على طاولتى المفضلة فى نادى التجاريين ، منهمكاً فى إعداد الأجور الخاصة بطاقم المسلسل التليفزيونى الذى سيتم إنتاجه من قبل شركة الإنتاج التى أعمل بها بوصفى المدير الفنى للشركة ، فكنت أجرى عدة مكالمات منهمكاً فى إعداد الطاقم، وإذا بفتاة أنيقة فى منتصف العشرين، خمرية اللون، تجلس فى الطاولة المجاورة بصحبة والدتها، وتنظر إلى كثيراً كأنها تعرفنى.

 

فوجئت بهما يستئذنان الجلوس على طاولتى أخذت الفتاة تتحدث بود ورقة بالغة وأنا مأخوذ بها رغم انشغالى، فنسيت مسئولياتى واندمجت فى صوتها الرقيق وملامحها الجذابة ، فكانت المرة الأولى التى شعرت فيها بحنين ودفء تجاه امرأة ، فلم أعهد مثل هذا الشعور مع الفتيات الثلاثة اللواتى قمت بخطبتهن من قبل ، رغم أنها لا تتفوق عليهن جمالاً .

 

بدأت الفتاة حديثها باللوم علىّ بسبب عدم سؤالى عنهن، فنحن أعضاء بنادٍ واحد، كما أن أباها كان يعمل بالشركة التى أعمل بها قبل وفاته، ثم طلبت منى الانتهاء الإجراءات الخاصة بمستحقاتهم من الشركة، وطلبت منى أيضاً أن أساعد شقيقتها فى حصولها على فرصة عمل فى المجال الفنى، ورغم أننى لست ممثلاً أو مخرجاً فأنا مجرد موظف بشركة إنتاج، ولكننى حاولت مساعدتها، فمنذ هذه اللحظة لم أتأخر عن أى طلب يخص حبيبة وأسرتها طوال سبعة سنوات وبخاصة بعد أن صارت زوجتى وأم (كريم) ابنى الوحيد، ولكن تغيرت الأحوال كثيراً، وأصبحت أنا من يحتاج المساعدة.

 

 بعد إخفاق العمل الأخير للشركة التى أعمل بها، أعلنت إفلاسها ، حتى أن صاحب الشركة هرب وتركنى أواجه المشاكل والقضايا وحدى منها مواجهة أفراد طاقم العمل وكل أصحاب الديون بصفتى المسئول المباشر أمامهم، فكان عاماً أسود.

 

وذات يوم أثناء رجوعى البيت وجدتنى غير قادر على الحركة ، وأتكلم بصعوبة ، وبدأت الرحلة الطويلة مع الأدوية والمستشفيات ، وعدنى الأطباء أن حالتى لن تتأخر عن ذلك بشرط عدم التعرض لأى ضغط نفسى ، وبذلك أستطيع الجلوس أو النوم بمفردى ، أما الوقوف أو المشى فلا يتم بدون مساندة شخص آخر، أنفقت كل ما أملك على العلاج دون جدوى ، فأمراض الخلايا الجذعية لا تزال غامضة حتى الآن، وتصيب شخصا واحدا كل عشرة ملايين، وقد كنت أنا هذا الشخص، لم أعترض يوماً على قضاء الرحمن، لكن أدعو الله أن تستقر حالتى ولا تتأخر عن ذلك، فلا أريد أن أصير حملاً ثقيلاً بخاصة على زوجتى حبيبة، فكل يوم يمر علينا أسأل نفسى إلى متى ستتحمل، وهل ستتركنى فى يوم ما؟ فقد تعودت التأخير فى الفترة الأخيرة، كما أن كلامها أصبح قليلاً، وصارت عصبية وصوتها عالياً، بخاصة بعد الزيارة الأخيرة للطبيب الأجنبى الذى أكد لنا أن احتمال الشفاء ضعيف جداً، ففى كل صباح تذهب بى إلى الشرفة وتترك لى وجبة الإفطار، وتخرج بصحبة ابننا، ثم تأتى فى نهاية اليوم وقد اشترت لى وجبة جاهزة لأتناولها وحدى، ثم تنقلنى إلى السرير، وأظل طوال اليوم أنظر إلى الميدان الواسع وحركة المارة والسيارات لأعوض هذا السكون الذى حل بى، وعندما تعود حبيبة أنسى كل شىء، وأحاول الاستمتاع بالساعات الباقية من النهار بجوار ابنى كريم حتى ينام فى حضنى طوال الليل.

 (2)

لكنها تأخرت اليوم على غير عادتها، فحل المساء واشتد البرد، فأريد الخروج من الشرفة، لا أشعر باحتياجى للطعام لأننى تعودت على الكميات القليلة حتى لا أضطر لدخول الحمام كثيراً فيكفى مرتين فى اليوم حتى لا أرهقها معى، تمر الساعات وأشعر باختناق وملل جامح يفتك قواى، أحاول التغلب عليه، أكيد حبيبة منشغلة مع عائلتها وأصدقائها، فاليوم عيد ميلادها الثالث والثلاثين، أراها سعيدة هى وكريم فينزاح الألم شيئاً، لكن طال الوقت وجسمى يقاومنى، فلم أستطع التحمل أكثر من ذلك، وهى لا ترد على اتصالاتى، فهل أجرب الوقوف وحدى نصحنى الطبيب بعدم فعل ذلك مطلقاً ولكن ليس لدى خيار، فحاولت الوقوف ببطء لكننى اصطدمت بالطاولة، انتشر الزجاج من حولى وانجرحت يدى بجرح طفيف، الأمر يزداد صعوبة، فما الذنب الذى أجنيته حتى يحدث لى كل هذا، لم أذكر أننى أسأت لإنسان قط، فلماذا هذا الجفاء يا حبيبة.

مساء الخير يا حاتم... ماذا حدث؟ ألم يحذرك الطبيب؟

تأخرت أكثر من اللازم، وكنت أريد الذهاب إلى الحمام.

أنت تريد أن تشعرنى بالذنب تجاهك، وكأننى المسئولة عما يحدث لك.

أبدا يا حبيبة ولكن..

يجب أن يشاركنى أسرتك فى هذه المسئولية.

أنت رفضتى السكن بجوارهم كما أنك تستائين من وجود أحدهم معنا.

لماذا لا تذهب للعيش معهم, ولكنك تريد راحتهم على حساب زوجتك.

كانت المرة الأولى التى صرحت حبيبة بما فى داخلها, ثم أدارت وجهها ومشت من أمامى ولكن سرعان ما تذكرت أننى مازلت ملقى على الأرض فعادت سريعاً، مدت يدها إلى كنت أتمنى وقتها ألا أمد يدى إليها وأقف بمفردى لكننى فعلت بموجب قانون العجز، وأثناء وقوفى غلبتنى دموعى نزلت قطرات على يديها، ربتت على يدى، ارتميت فى حضنها وقلت لها أنا لا أريد العيش بدونك ليس أكثر، فقالت: لا عليك يا حاتم انسى الأمر.

          أتى أخى لزيارتنا وجلس بجوارى بابتسامة باهتة يحاول أن يخفى وجعاً وطلب منى الذهاب معه فقال لى: أن حبيبة ستبعد فترة عن البيت ولا داعى لبقائك هنا، وتركت مفتاح الشقة مع حارس العقار

ألم تستطع الانتظار حتى تأتى، يبدو أن اليوم الأخير اقترب أو جاء بالفعل، فأصبحت حملاً ثقيلاً، فتحملتنى زوجتى ثلاث سنوات وأنت كم من الوقت ستتحملنى؟ وبعدها تتركنى لآخر، يا ترى سأصل إلى أين؟ هل سأجد نفسى ملقى فى الشارع فى يوم ما، سأقتصر الطريق، اتركونى هنا فلا أريد مساعدة، حتى أموت مرة واحدة بدل من هذا الموت البطىء.

قاطعنا جرس الشقة فكان الطارق زوج أخت حبيبة ، جاء يبلغنا رغبة حبيبة فى الطلاق فقلت له:

-حقها لكل إنسان قدرة على التحمل.

-إذن اعطها كل حقوقها.

- لها كل ماتريد.

- سنأتى بعد ساعة لأخذ محتويات الشقة.

جلست انظر للعمال وهم يحلون كل قطعة أثاث وأتتبعهم وهم يحملونها حتى يخرجون بها من باب الشقة، كنت أشعر أنهم يحملون سنوات عمرى فيعبثون بها كما يشاءون ثم يرمونها بالخارج، فكل قطعة من هذا الآثاث التعيس، قد اشترتها بعناية حتى ترضى عنها حبيبة، وكل ركن بالبيت يشهد على كلماتنا وضحكاتنا وأجمل لحظات العمر وأهمها يوم زواجنا ويوم ميلاد كريم، تمنيت أن تترك حبيبة العمال وتجلس معى للحظات تشعرنى أنها مستاءة مثلى ولكنها لم تأت فكانت مثل من ينجز مهمة شاقة وتريد الفراغ منها فى أسرع وقت وبالفعل انتهى كل شيء وأضحت الشقة واسعة وهواءها بارداً حد الألم، فلم يتبقى سوى الكرسى الذى أجلس عليه بالشرفة، دخلت إلى حبيبة ونظرت إليها طويلاً محاولاً التماسك، وهى صامتة والبرود يهيمن على المكان، وأخذ تماسكى فى الانهيار فقلت لها:

-أنا محتاج لك ولابنى أكثر مما تتخيلى، فلا أحد يعوضنى عنكما، فهذا المكان يمنحنى الدفء، كنت أتمنى ألا يحدث لى ذلك حتى لا تتركانى ...ولكن ليس بيدى.

- خفف عن نفسك يا حاتم.. سأراعى ابننا جيداً، ووجودك بين أسرتك أفضل لك

-انتهى كل شىء الآن؟

تجاهلت سؤالى: أريد أن آخذ المكيفات والسيارة ولكن أخوك رفض

-خذى ما تريدين ولكن لا تحرمينى من ابنى أرجوك فلم يتبقى لى غيره

 (3)

اتصلت كثيرا يا أمى للاطمئنان على كريم ولكن حبيبة لا ترد

-الحقيقة يا حاتم أخوك تشاجر مع حبيبة ورفض إعطاءها السيارة، فلديها واحدة وأنت تحتاج سيارتك لمشاوير العلاج وغيره فتوعدت بحرماننا من الولد:

-قلت ألف مرة اعطوها ما تريد

قاطع أخى صوتى بصوت أعلى:

-لماذا لا تفهم حتى الآن، حبيبة تتعامل معك باعتبارك إنسانا ميتا يا حاتم, كفاك استسلام، فهى تريد استغلالك فحسب.

-وأنت ماذا ترى؟ أترى أننى مازلت حياً، اتركونى كلكم، اتركونى وشأنى.

 ولم أشعر بنفسى وأنا أصرخ عليهم حتى أوقفنا بكاء أمى المكتوم الذى صار عالياً أكثر من اللازم.

تناولت الأدوية ونمت نوماً عميقاً واستيقظت باكراً، وكانت المفاجأة أننى وقفت بمفردى، فلم أصدق فقلت أجرب أن أمشى بضع خطوات ففعلتها، أعمت الفرحة عقلى فبدلت ملابسى على الفور وخرجت من المنزل وسمعت المؤذن يقيم لصلاة الفجر، دخلت المسجد ووقفت بالصف الأول وأديت الصلاة دون الحاجة إلى الكرسى، تفاجأ الجميع وهنأونى بحرارة وكنت أود الخروج مسرعاً حتى أذهب إلى حبيبة وابنى ليرانى بعد ما شفيت، ولكن لحقنى الشيخ يس إمام المسجد وأوقفنى فقلت له: سامحنى يا شيخ يس فليس لدى وقت أريد أريد اللحاق بأسرتى وعملى فأخيرا سأتخلص من نظرات الشفقة التى تحاصرنى من ثلاث سنوات.

انتظر يا بنى وضغط على يدى ضغطة قوية آلمتنى.

قلت له: اتركنى يا شيخ لأستعيد أنفاسى سأختنق هكذا واستطعت التخلص منه وجريت مسرعاً فكادت سيارة أن تصدمنى ولكن أنقذنى صبى صغير ثم احتضننى بقوة وقال:

-ألا تذكرنى أنا طه نزيل دار سندس صاحبها الشيخ يس, لماذا امتنعت عن زيارتى لثلاث سنوات.

-نعم أذكرك يا طه, امتنعت عنك حتى لا تتغير صورتى فى عينيك.

الصورة لا تتغير فى عين المحبين، فى انتظارك دائماً لا تتأخر.

طه انتظر .. أنت كنت كفيفاً ماذا حدث؟ أخبرنى , طه .. طه

استيقظت هادئاً وكأن طه لا يزال فى حضنى, فناديت أمى وتحدثت إليها بهدوء وطلبت منها أن تأتى بمرافق يقيم معى فقالت:

لديك خمسة أخوة وأولادهم كلنا نتمنى قربك.

- سأكون راض أكثر, أريد الخروج من المنزل حتى لا أظل فريسة الماضى والأفكار المرعبة

 - أمرك يا حبيبي.

حلمت بالشيخ يس , كم اشتقت له، مر عشر سنوات على وفاته ولايزال عالقاً بكيان كل من يعرفه، لكن ابنته سندس صورة لروحه، فكل شىء يصير كأنه موجود، صحيح يا حاتم كانت تسأل عنك كثيراً.

هل تظنين أن هناك يوما جديدا

عندما يغلق باب يفتح آخر، لكن احفظ الرسائل جيداً

قاطعنا ابن أخي: هناك ضيف ينتظرك

فقلت بسخرية: أمازال أحد ينتظرني؟!

ولما لا؟ وأنت تمنح البهجة لكل من تعرفه

الآن صرت امنحهم الشقاء

ياترى من يكون الزائر؟

هل سيكون طه أم سندس أم صديق قديم أم هناك أخبار عن ابني

فهمس الزائر: الأهم أن هناك من ينتظرك , فالنهر لا ينضب وليس هناك يوم أخير.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة