مرت 7 أشهر كاملة على تحرير مدينة الموصل العراقية من يد تنظيم "داعش" الإرهابى، ولا تزال رائحة الدم والقتل تنتشر فى كل شبر من المدينة التاريخية التى تحولت إلى أطلال بفعل الحرب وتخريب الإرهابيين الذين شوهوا ودمروا معالمها بالكامل قبل إلحاق الهزيمة بهم فى مواجهة القوات العراقية الباسلة.
وعقب طرد التنظيم الإرهابى من مدينة الموصل، وإلحاق الهزائم المتتالية بفلول المتطرفين فى باقى المدن العراقية، بدأت العائلات النازحة هربًا من ويلات الحرب فى العودة إلى منازلها شبه المدمرة أو تلك المدمرة كليًا لارتباطهم بالأرض، وآخر الدفعات العائدة كانت 250 أسرة، عادت إلى منازلها، يوم السبت الماضى، فى مركز تلعفر، شمال غرب الموصل.
والعراقيون الذين عادوا إلى الحى القديم فى الموصل يدركون أن من الصعب العيش وسط الركام الذى خلفته المعركة مع تنظيم "داعش"، لكن ثمة أمرًا واحدًا فى المنطقة يجدون أنه لا يطاق بعد مرور 7 أشهر على توقف القتال.
الجثث المتحللة تهدد حياة المدنيين بالأمراض فى الموصل
وفى هذا الصدد، قال عبد الرزاق عبد الله - الذى عاد مع زوجته وأطفاله الثلاثة إلى الحى الذى شهد آخر معركة خاضها المتشددون فى يوليو الماضى مع القوات العراقية وقوات التحالف الذى تقوده الولايات المتحدة: "لا أريد أن يمشى أطفالى بجوار جثث قتلى فى الشارع كل يوم".
واستطرد عبد الله: "نقدر على العيش بلا كهرباء، لكننا نحتاج لأن ترفع الحكومة الجثث، فهى تنشر الأمراض وتذكرنا بالفظائع التى عشناها"، وتتصاعد رائحة الموت لتزكم الأنوف من أركان تمتلئ بالركام وسط الخراب الذى حل بالشطر الغربى من الموصل، ومن سيارات يأكلها الصدأ لا تزال مفخخة بالمتفجرات ومن بيوت مهجورة بعدما فر من استطاع الفرار من النهاية الدموية لحكم المتشددين للمدينة الذى استمر 3 سنوات، وغالبية الجثث الملقاة فى العراء فى شوارع كثيرة لمتطرفين من التنظيم ممن تراجعوا إلى المبانى المتلاصقة فى الحى القديم الذى لم يعد إليه سوى نحو 5000 شخص فقط، اضطروا للعودة، من إجمالى سكان الحى الذى كان يقطنه قبل الحرب قرابة 200 ألف نسمة.
العثور على جثة لمسلح من داعش فى الموصل
الدفاع المدنى العراقى يجمع 2585 حتى منتصف يناير الماضى
ويقول سكان ومسئولون بمدينة الموصل - التى يغلب السنة على أهلها - إن جثث آلاف من المدنيين لم تنتشل بعد من الأنقاض، لكن الحكومة العراقية كان لها رأيًا أخر، حيث قال العميد محمد محمود، رئيس قوات الدفاع المدنى فى المدينة، "لا توجد جثث أخرى لمدنيين لانتشالها فى الموصل"، مشيرًا إلى أن الدفاع المدنى التابع لوزارة الداخلية هو المكلف برفع الجثث وإصدار شهادات الوفاة.
فيما أكد الدفاع المدنى، على أنه جمع جثث 2585 مدنيا حتى منتصف يناير، وإنه لم يتم التعرف على أصحاب الكثير منها، وإنه استكمل عملياته، مضيفًا "لا يريد الدفاع المدنى إهدار موارده على جثث المتشددين"، حيث قال العميد محمود، "لماذا نمنح الإرهابيين فرصة الدفن اللائق؟"، ويهدد الخلاف على جثث القتلى بزيادة غضب سكان المدينة الذين أرهقتهم حرب صعبة وحكم المتشددين القاسى، والثابت هنا أن المدينة تعج بجثث ورفات القتلى رغم الاختلاف على كونهم مدنيين أو إرهابيين، الأمر الذى يهدد حياة الأحياء فى المدينة المنهارة.
تشكيل فرق للبحث عن 9000 مفقود فى قبور جماعية بالموصل
ومن جهتها، اضطرت مديرية البلدية، إلى تشكيل فريقها المتخصص لتلقى طلبات سكان المدينة للعثور على أكثر من 9000 مفقود أغلبهم كانت آخر مرة يشاهدون فيها فى الحى القديم ومن المفترض أنهم دفنوا تحت الركام.
ويعمل الفريق حاليًا على إنجاز طلبات لرفع 300 جثة، ويرسل مجموعات لانتشالها كلما أمكن، لكن هذه الجثث هى التى شاهدها جيران أو أفراد العائلات أو المارة وحددوا مواقعها، وقال دريد حازم محمد، رئيس لجنة انتشال الجثث بمديرية البلدية، متابعًا: "لا نعرف عدد الجثث الأخرى تحت الركام، إذا لم تتصل بنا أسرة أو شاهد، رأى الناس يموتون، لإبلاغنا على وجه التحديد بعدد الجثث فى موقع ما، فلا سبيل لنا لمعرفة ما إذا كانت هناك جثة أو 5 أو 100 مدفونة فيه".
فيما أوضح سكان محليون، أنه تم حفر قبور جماعية مع اشتداد حدة المعركة، ويقول السكان، إن 100 من جيرانهم دفنوا بشكل جماعى فى قبور غير عميقة فى باحة مسجد "أم التسعة"، بالحى القديم، وقال محمود كريم: "دفنت أنا بنفسى بين 50 و60 شخصًا، بيدى، بينما كانت الطائرات تحلق فوق الرؤوس وتقصف المدينة"، وقد وصل العديد من العائلات لاستخراج جثث أقاربها لدفنها فى مقابر ملائمة، وتابع كريم: "لكن آخرين لا نعرف أين عائلاتهم"، وبعض هؤلاء قضى نحبه بينما لا يزال آخرون ضمن آلاف ما زالوا فى مخيمات اللاجئين أو استأجروا أماكن للإقامة بإيجارات غالية فى مناطق أخرى من المدينة.
فرق انتشال الجثث من شوارع الموصل
مديرية البلدية بالموصل تقدر الضحايا فى صفوف المدنيين بـ10 آلاف قتيل
ولم تذكر مديرية البلدية فى الموصل، العدد المحدد للخسائر البشرية فى صفوف المدنيين، غير أن رئيسها عبد الستار الحبو، قال لـ"رويترز"، إنه يتفق مع تقديرات بمقتل نحو 10 آلاف مدنى خلال المعركة بناء على تقارير المفقودين ومعلومات عن القتلى من المسئولين، ويشمل الرقم ضحايا القتال البرى وضحايا قصف قوات التحالف.
وردًا على طلب للحصول على تعليق، أحال متحدث باسم التحالف الأمريكى، "رويترز"، إلى تقارير متاحة عن الأحداث، وأوضح تجميع محصلة هذه التقارير، أن الجيش الأمريكى يعترف بقتل 321 فردًا بناءً على "مزاعم لها مصداقية"، وذلك من عشرات التقارير عن سقوط قتلى وجرحى بين المدنيين بسبب الغارات الجوية لقوات التحالف قرب الموصل، وأوضحت البيانات، أن التحقيق ما زال جاريا فى 100 تقرير آخر عن سقوط ضحايا من ضربات التحالف قرب الموصل كل منها يشير إلى قتيل أو عدة قتلى.
جثث عناصر "داعش" منتشرة فى الشوارع والمنازل بالموصل
ورغم أن أبرز المشاكل فى الموصل هى جثث المقاتلين المتروكة فى الشوارع، فإن السكان يقولون إنهم عثروا أيضا على جثث لأفراد يشتبه أنهم من أقارب أعضاء تنظيم "داعش"، فى بيوتهم، وقال صاحب بيت فى الحى القديم - طلب من "رويترز" حجب اسمه، خوفا من رد فعل المسئولين - إنه ظل أسابيع يطلب من الدفاع المدنى المجئ ورفع جثتين من حجرة النوم الرئيسية فى بيته بالطابق السفلى، وقد تحللت الجثتان، لكن من الواضح من الملابس أنهما لامرأة وطفل.
وأشار صاحب بيت فى الحى القديم، إلى تنظيم "داعش" - الدفاع المدنى رفض، لأنهم قالوا إن المرأة والطفل من داعش، متابعًا: "قالوا إنهم يعاقبوننى لأنهم يعتقدون أننى أيدت داعش"، وفى هذا الصدد، جمع فريق البلدية، 348 جثة لمتشددين حتى الآن، لكن لا يزال عدد كبير منها موجودا، ويمر السكان بها فى طريقهم لجلب المياه من المضخات المؤقتة فى أحد الشوارع، بينما يلعب أطفال صغار على مسافة غير بعيدة من جثتين على عتبة أحد البيوت، ومن الممكن التعرف على بعض المقاتلين من ملابسهم، بينما كشف جيران للحكومة عن هوية البعض، وعثر على بعض الجثث لمقاتلين مازالوا ممسكين بسلاحهم الذى استخدموه فى المعركة الأخيرة فى مواجهة القوات العراقية وقوات التحالف التى حاصرتهم".
انتشال جثث متحللة من منازل مدينة الموصل
قلة الأموال تعيق فرق البحث عن انتشال الجثث من الموصل
ومما يعرقل جهود فريق الانتشال التابع لمديرية البلدية، قلة الأموال المخصصة له، ففى عدة أيام خلال يناير، اضطر أفراد الفريق لوقف العمليات لنقص القفازات والأقنعة وأكياس الجثث، بينما لجأت بعض العائلات إلى الحفر بنفسها لاستخراج جثث ذويها مثل "مصطفى نادر"، البالغ من العمر 23 عامًا، الذى عاد باحثا عن عبد الله أحمد حسين، عم والده.
وقال نادر، عن - العم النحات المسن، والدموع فى عينيه، بعدما ظل يحفر ساعة حتى استخرج جثته - مضيفًا: "لم نكن متأكدين أننا سنعثر عليه هنا، قلت لنفسى إنه ربما رحل أو ذهب إلى بيت أحد الجيران"، بينما لجأ آخرون إلى تصرفات صعبة، فقد عاد "إياد"، فى أوائل يناير الماضى، بعد أن أمضى 6 أشهر فى مخيم للاجئين، ووجد جثثا متحللة لثلاثة من مقاتلى "داعش"، فى غرفة المعيشة فى بيته، وقال "الذباب والرائحة والمرض شئ بشع".
وقال فريق البلدية، إنه لن يتمكن من الوصول إليه قبل أسابيع، ولذلك طلب "إياد"، من جندى فى إحدى الدوريات التأكد من عدم وجود متفجرات فى الجثث، ثم أشعل فيها النار، ولأنه أنفق معظم ماله فى شراء قماش مشمع لتغطية فجوة كبيرة حيث كان الباب الأمامى لبيته، فقد اقترض 20 دولارا من شقيقته لشراء مادة للتعقيم فى محاولة لإزالة الآثار حتى تتمكن أسرته المكونة من عشرة أفراد من العودة للبيت، ويقول "ما زالت الرائحة لم تختف تماما".
انتشال الجثث من شوارع ومنازل الموصل
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة