عفرين وانتقادات منقطعة النظير للآلة العسكرية التركية فى الحرب السورية، "غصن الزيتون" حملت جرائم حرب عدة ارتُكِبَت على الجبهة مثل قتل المدنيين تحت ستار مقاتلة وحدات حماية الشعب الكردية والتى طالما صنفتها واشنطن بالإرهابية، إلا أنها فعلياً قطعة صغيرة من خريطة أكبر للعلاقات المشبوهة بين ترامب والدب الروسي.
إطلاق واشنطن يد الأتراك فى الأراضى السورية وتجنب الصدام المباشر مع القوات الروسية يؤكد التحولات الجذرية فى العلاقات الروسية الأمريكية، مع وصول ترامب للسلطة باتت تلك التحولات واضحة فى مشهد السياسة الدولية مثل اتخاذ الساسة والاعلام الأمريكى خطوات للخلف أمام الكثير من الملفات الصدامية مع الروس.
وقد تبدو سوريا الأكثر وضوحاً، فعلى الرغم من اجتماع كافة الجبهات المتحاربة ضد تنظيم الدولة الإسلامية إلا أن الرئيس السابق أوباما قد أوضح مساحة الاختلاف فى مصالح أمريكا مقارنةً بنظيرها الروسى، حيث اعتبر رحيل بشار الأسد شرطاً أولياً لا بديل له لإنهاء الأزمة السورية، أما ترامب لا يتحدث عن إسقاط الأسد مما يؤكد حجم التحول فى موقف الرئاسة الأمريكية تجاه الملف ككل من الصدام السياسى والحربى إلى التكيف مع الوضع القائم والاكتفاء بدحر داعش.
وبعيداً عن سوريا، يعتبر الملف الأوكرانى الأكثر وضوحاً، فبعد حرب طويلة أججتها ومولتها واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون لإسقاط الرئيس الأوكرانى فيكتور يانكوفيتش الحليف المخلص للكرملين والتى بدأت عام 2013، وعلى الرغم من تأكيد أوباما رفضه ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا عشية استفتاء 2014 بل وتقديم الدعم العسكرى والمالى والاستخباراتى للقوات الخادمة للمصالح الأمريكية على الأراضى الأوكرانية، إلا أن إدارة ترامب قد غيرت هذا المسار بالكامل فلم يعد البيت الأبيض يتناول أزمة القرم على الاطلاق سواء فى تصريحاته الإعلامية أو فى تحركاتها داخل أروقة الأمم المتحدة وخاصة مجلس الأمن مما يعد اعترافاً باهظ الثمن لبوتين بروسية القرم، بل تراجعت إداناته للقوات المقاتلة فى دونيتسك ولوجانسك الموالية للكرملين والتى يصفها البعض بالعصابات.
ولا يتوقف الأمر فقط على شبه جزيرة القرم التى احتضنت قاعدة ضخمة للأسطول الروسى فى سيباستبول منذ انشطار الاتحاد السوفيتى السابق عام 1991، بل السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الملف الأوكرانى بالكامل قد تغيرت من المواجهة الحربية غير المباشرة مع موسكو وتطويق اقتصادها بحزم عقوبات مجهدة بالتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين إلى سياسة التكيف مع الوضع القائم كما حدث فى سوريا بالضبط والصمت حيال ما يحدث على الأرض، ويتبدى ذلك جلياً فى تصريحات ترامب والاعلام الأمريكى التى اختفت فيه كلمة "الأزمة" عند تناول الملف الأوكراني، بما يعد اعترافاً بانتصار القادة الروس على أراضى الأوكرانيين.
من أوكرانيا إلى إيران، فقد أعلن وزير الدفاع جون ماتيس شخصياً أن أمريكا لا تعتزم الرد على إيران عسكرياً لكبح برنامجها النووى، كما شدد على أن الرد لن يتجاوز الإطار الدبلوماسي!! الأمر الذى دفع نتنياهو للتصريح بمؤتمر ميونخ للأمن ممسكاً بيده اليمنى قطعة من طائرة إيرانية بدون طيار دخلت المجال الجوى الإسرائيلى للتجسس وتعليقاً على تمادى نفوذ طهران الإقليمى أنه لن يسمح للنظام الإيرانى بلف "حبل المشنقة" حول رقبة الإسرائيليين، مما يعد طفرة فى السياسة الأمريكية بل ومصالح الدب الروسى وحلفائه على حد سواء.
وبعد سوريا وأوكرانيا وإيران.، يأتى ملف رابع أهم يمس روسيا نفسها ألا وهو العقوبات الغربية ضدها التى باتت درباً من السراب فى ظل إدارة ترامب رغم أولويتها فى خطة أوباما مسبقا،ً لتشمل قطاعات حيوية للاقتصاد الروسى مثل النفط والغاز كما تطل قائمة طويلة من الشخصيات بالغة الأهمية فى صفوف حكومة بوتين والتى تصل لحوالى 114 مسئولا ويأتى على رأسها رئيس وزرائه ميدفيدف نفسه حسب ما نشرته جريدة التايم فى مقالة بعنوان (إدارة ترامب لن تفرض عقوبات جديدة على روسيا) يوم 30 يناير 2018.
ففى تلك المقالة، أشار جوش ليدرمان إلى شمول قائمة العقوبات قادة فى وكالات استخباراتية مثل وكالة جى آر يو ووكالة إف إس بي، علاوة على مديرين تنفيذيين لشركات مملوكة للدولة مثل روزنيفت وبنك سبيربنك، كما ورد اسم بعض أقطاب الصناعة الروسية فى القائمة أيضاً مثل الملياردير رومان أبراموفيتش وميخائيل بروخوروف.
وأخيراً تأتى الشخصية الأهم فى القائمة وهى أوليج ديريباسكا المتورط فى تحقيقات تدخل روسيا فى انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة والتلاعب بها بسبب علاقته المشبوهة بمدير حملة دونالد ترامب الرئاسية بول مانافورت، تلك التحقيقات التى لا تزال جارية ومحل نقاش واسع، وفى حالة ثبوت تدخل الروس سيشهد ترامب وحلفائه بلا شك مغبة كبيرة فى الولايات المتحدة لاعتبارها اختراقاً لم يحدث من قبل فى تاريخ أكبر دولة بالعالم منذ ميلادها.
مكاسب استراتيجية للكرملين من وجود ترامب بالسلطة فماذا حصل ترامب فى المقابل؟
هذا علاوة على ترك واشنطون المساحة للروس لإشاعة الانقسام فى صفوف دول الاتحاد الأوروبى لتفادى اتخاذ موقف أوروبى موحد إزاء فرض عقوبات على روسيا.
ويبقى السؤال الأهم: ما هى تفاصيل الصفقة التى توصل لها ترامب مع الروس والتى لا تزال غير معروفة حتى الآن؟
فعلى الرغم من سريتها، إلا أن الساحة العالمية لا تزال تحمل مفاجآت يومياً تطفو على السطح، وتحمل فى فحواها حيثيات تلك الصفقة السرية وما خفى كان أعظم.
وكما نقول فى أمثالنا الشعبية: يا خبر النهارده بفلوس بكرا يبقى ببلاش!!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة