قتال لا يهدأ، وبطولات ممتدة على طول الحدود لدحر الإرهاب الأسود، الذى حاول فى غفلة من الزمن النيل من عزيمة شعب لا يرضخ لأمراء الخراب ودعاة التخلف.. هذا هو المشهد القائم منذ ثورة 30 يونيو 2013 حتى الآن، ومع شروعه فى التراجع على خلفية النجاحات الضخمة التى حققتها الأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة فى مواجهة الإرهاب وجماعاته، يبدو أن الخبرات الكبيرة المتراكمة طوال هذه السنوات، والكفاءات الفنية والبشرية التى تدربت فى ميدان المواجهة المباشرة، على موعد مع معركة جديدة، وانتصار آخر لا يقل أهمية عن انتصار تطهير الأرض، لأنه يمثل خطوة مهمة على طريق تنميتها وتحديثها.
التحديات التى عبرتها مصر طوال السنوات الخمس الأخيرة تتشابه مع السياق الذى تعيشه كثير من دول أفريقيا، التى تواجه معركة شرسة وغير متكافئة مع الجماعات والميليشيات الإرهابية، وفى الوقت الذى تعتمد فيه على خبرات ومساندة من بعض الدول الغربية، بينما تتطلع مصر إلى مد جسور التواصل، وتوطيد العلاقات مع الأشقاء فى القارة السمراء، ربما يكون ملف الإرهاب المدخل الذهبى الذى يمكن توظيفه لتذويب الثلوج والقفز فوق آثار سنوات طويلة من القطيعة والغياب شبه الكامل عن العمق الاستراتيجى لمصر.
فى البداية، يقول الدكتور محمد عبدالكريم، الباحث فى معهد الدراسات المستقبلية بالعاصمة اللبنانية بيروت: إن التجربة المصرية فى مجال مكافحة الإرهاب رائدة وملهمة لكثير من الدول، مؤكدا فى الوقت نفسه أن الملف فى أفريقيا أكثر تعقيدا مما يتخيل البعض، وأنه لا يمكن إرجاع ظاهرة الإرهاب فى القارة إلى سبب واحد، فى ضوء تشابك العوامل الداخلية والإقليمية والدولية بشكل مركب ومتداخل.
وأضاف «عبدالكريم» فى تصريح خاص لـ«اليوم السابع»، أن مصر سيكون لها دور كبير خلال رئاستها للاتحاد الأفريقى فى 2019، فى ضوء ما تملكه من خبرات كبيرة فى استراتيجيات وآليات مكافحة الإرهاب على كل المستويات الأمنية والفكرية، كما أن هذه الرئاسة ستشكل علامة فارقة فى مسار الاتحاد، وفى ملف مواجهة الإرهاب بشكل خاص، وربما بدأت مؤشرات هذا التحول تتضح من خلال عدد من التحركات العملية، أبرزها تولى مصر تدريب قوات من إقليم الساحل والصحراء على مكافحة الإرهاب، وتسريع أجهزة الدولة لمسار عملها فى وضع تصورات مختلفة لإدارة الاتحاد فى المرحلة المقبلة، والعمل على تحقيق قدر أكبر من الاندماج والتكامل فى العمل الأفريقى بشكل يستند إلى قوة مصر الناعمة وميراثها الحضارى والثقافى وروابطها التاريخية بالقارة، وكل هذا تدعمه تجربة نضالية تحظى بتقدير كل الأفارقة.
ويرى الدكتور أيمن شبانة، الأستاذ فى معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، أن مصر تستطيع دعم أفريقيا بما هو أكبر من المساندة الأمنية واللوجستية، وذلك بالنظر إلى خبراتها الواسعة، وحقيقة أن انتشار الإرهاب فى دول القارة السمراء يعود لأسباب عدة، أبرزها الفقر وتراجع الاقتصاد والتعليم والثقافة، وهو ما يحتاج جهودا فى مسارات متوازية، سعيا إلى دعم قدرات المؤسسات الأمنية فى هذه الدول، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والسيطرة على مسارات تنامى وتدفق الخطابات المتطرفة.
وأشار «شبانة» فى حديثه لـ«اليوم السابع» إلى أن حركات السلفية الجهادية المنتشرة فى أفريقيا، بدأ ظهورها خلال تسعينيات القرن الماضى، والسبب وراء هذا الانتشار السريع يعود إلى عدم قدرة المؤسسات الدينية المعتدلة فى هذه الدول على مواجهة الخطاب المتطرف، أو بالأحرى عدم قدرتها على طرح خطاب دينى واقعى، قادر على تفهم واستيعاب متطلبات العصر ومتغيراته الهيكلية المتسارعة، وهو ما يحتاج مساندة عاجلة وعميقة من مصر فى هذا المسار، مشددا على أن الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف والكنيسة الأرثوذكسية ومؤسسات مصر الدينية كافة، بإمكانها لعب دور رئيسى فى تجديد الخطاب الدينى، وتحسين صورة مصر، وتعميق الصلات والروابط بين القاهرة ودول القارة، عبر المدارس وحركة النشر والبعثات، بهدف صقل الخبرات ووضع مصر على خريطة الوعى الدينى والروحى للأفارقة.
من جانبها، قالت الدكتورة هبة البشبيشى، الباحثة فى معهد البحوث الأفريقية بجامعة القاهرة: إن كل دول القارة تقريبا تعتمد فى مواجهتها للإرهاب على دول أخرى، مثل منطقة غربلا أفريقيا التى تعتمد بكاملها على قوات فرنسية، باستثناء مصر التى تحارب الإرهاب فى معركة شاملة بجهود وطنية خالصة، وهو ما يجعلها أكثر قدرة على مساندة دول القارة، خاصة فى ظل اشتراكها معهم فى الوعى بطبيعة المنطقة، واتحاد دوائر الأمن القومى بين القاهرة والظهير الأفريقى، مشددة على أن التحرك المصرى فى هذا الاتجاه سيحقق نجاحا سريعا وسهلا، فى ظل أن الدعم الغربى لدول القارة فى معركتها مع الإرهاب لم يحقق آثارا ملموسة وحقيقية حتى الآن.
ولفتت «البشبيشى» إلى أنه حال تفعيل التجربة المصرية على مستوى القارة، فستكون الفروق واضحة للغاية، وهو ما يمنح القاهرة موقعا أفضل على سلم التنسيق والعلاقات مع دول القارة، إضافة إلى أن رئاسة مصر للاتحاد الأفريقى ستضمن لها حضورا أكثر استمرارية وفاعلية على خريطة القارة، وستساعدها على ابتكار واقتراح آليات عملية وتنسيقية داخل الاتحاد لنقل الخبرات المصرية، وتعزيز التعاون، وتسهيل العمل المشترك بين الأجهزة الأمنية والمؤسسات الدينية فى الجانبين.
وأكدت هبة البشبيشى فى حديثها أن مواجهة الإرهاب فى أفريقيا يجب أن تعتمد على طريقتين: الأولى مباشرة تتمثل فى المواجهة التكتيكية على الأرض بالاتفاق بين كل الدول، والتحرك من خلال خطط استراتيجية مدروسة بعد توافر المعلومات، والقضاء على أوكار وتكتلات المتطرفين لمنع الإرهاب من منبعه، والثانية تتمثل فى إحلال أفكار تنموية محل أفكار الإرهابيين، وإعادة الإعمار، وإطلاق مسيرة التنمية المستدامة، والقضاء على البطالة وأسباب التطرف بشكل شامل.
نقلا عن العدد اليومى..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة