محمد حبوشه

كانت الطبيعة فى ريفنا الغض الندى كالمرأة الفاتنة

الجمعة، 14 ديسمبر 2018 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يا إلهى ما الذى حدث لحياتنا نحن القرويون فى تلك المدن العدائية البغيضة؟ فما أجمل حياتنا الماضية فى ريف مصر الذى كان ومازال مرتعا للخيال، وباعثا على البهجة والرخاء، ومصدرا للخير والنماء، وكان مخزنا للمحبة والعطاء، بل إنه كان معينا لاينضب من المودة والأخوة والرحمة ومراعاة حقوق الجار، وإعانة أصحاب السبيل والمحتاجين فى زمن البراءة والفطرة الطيبة التى فطر الله الناس عليها.

 

لم تكن المشاهد الطبيعية الخلابة فى ريفنا المصرى الغض الندى، بخضرتها وبهاء منظرها مجرد أمكنة وبشر، بل كانت فضاءات رحبة تتصل بها الأرض والسماء، ورغم ماكان يعلوها من طبقات ذلك الصمت الرهيب، فقد كانت بمثابة لوحة بهية زاهية الألوان، تتفاوت فى درجاتها الجمالية لتحمل دلالاتها مراحل الحياة كلها من لحظات الميلاد وحتى نهايات الموت والفناء.

 

كانت العين تسرح فى تأمل مريح عبر الوديان الخضراء والجداول التى تلمع بفضة ليلة مقمرة، أو على أثر انعكاس أشعة الشمس الذهبية على سنابل القمح والأرز والشعير و"كيزان" الذرة فى عز نهار فتى، فتبدو قاسية على رقاب البشر فى ساعات النهار، حانية على أرزاقهم فى لحظات الحصاد وجنى الثمار، وما أجمل تلك الحقول اليانعة بالخضرة التى كانت تلامس سقف السماء فى نهاية الأفق البعيد، بينما الشمس تلملم خيوطها القرمزية فى رحلة الوادع الأخير، معلنة نهاية يوم من الشقاء والتعب فى رحلة الحياة اللذيذة.

 

الطبيعة فى ريفنا حتى نهاية القرن العشرين كانت بحق هى كالمرأة الفاتنة تستحق أن تطرى ويتغزل المرء بجمالها وفتنتها، لذلك نرى كثير من الروائيين الكبار قد برعوا فى وصف طبيعة بلدانهم وقراهم بمشاهدها الساحرة بغية الافتخار بها، وتعريف الناس بمزاياها الخلابة، رغم ما يعلوها من صمت علوى سماوى يتناغم مع أعذب الأصوات القادمة من هدهدات أعشاش العصافير، وطنين النحل، وخفقات الريح، وتموجات النسيم مع إشراق الشمس وروعة الضياء فى بديات صباحات ندية مفعمة بالنشاط.

 

حين أنبش فى الذاكرة يحضرنى الآن: كيف كانت الخليقة كلها تجلس إلى مائدة واحدة يلتفون حول "طبلية خشبية" لتناول وجبات الإفطار والغداء والعشاء، عندما تحين الساعة والجود على قدر الموجود الذى يكفى البيت وعابر السبيل، والذى كانت تتبارى الحنجرات فى دعوته للمشاركة فى الطعام، وفى كثير من الأحيان كان ينشرغطاء المائدة الكبير نفسها فوق الأرض الخضراء المفروشة بالرضا والقناعة.

 

كان الله جل جلاله فى ملكوته العلوى يقدم الوجبة الكونية فى انتظام، حتى ينال كل كائن على وجه البسيطة طعامه أوعلفه، فتجد اليمامة حبات من القمح أو الشعير، وتجد الحمامة ذرة بيضاء، وحتى الذبابة نقعيّات، وذوالمنقار ذباباً، وتهجع العصافير فى الصباح من أعشاشها لتخترق بطن السماء بخفة ورشاقة لتصل إلى أبعد الحقول عائدة بحوصلة عامرة بالخير.

 

لك أن تتأمل هذا الملكوت الذى ربما يأكل بعضه بعضا، لكن ذلك هو لغز الشر ممتزجا بالخير، المهم أنه أياً من كان من الكائنات أوالحيوانات لم يكن فارغ المعدة، على عكس إنسان ذلك اليوم الذى ربما لا يلامس جوفه أو جوف أبنائه كسرة خبز لأيام وليال طويلة فى ظل شظف العيش وقليلة الحيلة وجفاف الضرع، فضلا عن انهيار قيم الرحمة والرأفة والحنان، وكلها كانت عناوين بارزة تحتل صدر بيوت قريتنا الصغيرة التى مازالت تسكن فى دعة وأمان حضن النيل متشحة بالغبار، وطبقات من الصمت الموحش الذى يعجز عن وصفه حال أهل نفس المكان فى غير الزمان.

 

اليوم نسير فى نفس الدروب الملتوية، نلامس الذاكرة الحية فى محاولة لاستعادة مشاهد جداران البيوت فى الحارات القديمة بطرزها الطينية ذات الملمس الناعم، والتى كانت تغمرها البهجة، قبل أن تزحف العولمة عليها فتحيلها كتل من ركام خرسانى خشن، وتحيل الوديان الخضراء إلى خرائب شائهة المنظر، وتقلب الصمت ضجيجا وصخبا على إيقاع الفضائيات التى أكلت الأخضر واليابس، وحولت ليل الفلاح البسيط إلى نهار مشحون بالرغبة والغريزة والاستلام لنواعير برامج "التوك شو" فى حالات من الاستسلام اللذيذ.

ناهيك عن وصلات النت التى فضت بكارة القيم والعادات والتقاليد، بعد أن أصبح الفلاح البسيط مواطنا كونيا بفعل الرغبات المتوحشة، وتحت تأثير الدردشة عبر الشات المفتوح ليل نهار، والتى جعلت كل الشباب العرب بفعل اضرارى (أنثى - female ) لدواعى المغامرة والفوز فى مارثون الجنس المفتوح عبر ذلك الفضاء التخيلى على مصراعيه، منتهكا براءة تلك الليالى الخوالى.

 

لم يكن فى قريتنا فى القرن العشرين حتى وقت قريب صوت يعلو فوق صوت المؤذن، عندما يطل بعمامته البيضاء التى يزين رأسها طربوش أحمر من أعلى مئذنة الجامع الكبير الذى كان يتوسط قريتنا فى شموخ وعزة، ولا يطرب أهلنا الطيبون لغير أم كلثوم وعبد الوهاب وحليم ووردة وفريد وفايزة وغيرهم من أساطين زمن الغناء الرصين الذى يبعث على الشجن.

 

الآن انقسم الشباب فى قريتنا وكل ريف مصر إلى فريقين (عمراوى) و(تمراوى) ليجرفوا الذائقة تماما نحو حافة الهاوية، كما تجريف حياة الفلاح المصرى فى ظل مونديال الدراما الرمضانية الذى ينافس كرة القدم فى وصلات ضياع الوقت، وانتشار ظواهر البلطجة والعنف، بينما النسوة المتشحات بالسواد المتسمات بالوقار قد محون جاهليتهن بـ"هيفاء ونانسى ونانا ومروة" وغيرهن من الشريفات العفيفات فى سوق الكليبات الزاحفة على بساطنا الأخضر الذى كان يوما موطن الطمأنينة والأمان.

 

وهنا السؤال: هل يمكن أن يعود بنا الزمان إلى الوراء مرة ثانية، أو يأتى يوم يشعر فيه القروى منا بدفء ذات المكان ؟ أم أن الأمر أصبح فى خبر كان؟

 

أغلب الظن أن عجلة الحياة لا يمكن أن تتوقف ولو لحظة واحدة عن دورانها اللاهث وسط ذلك الصخب والضجيج الذى اعتدناه فى حياة المدن القاتلة، تلك التى تخلو من لحظة تأمل عفوى فى قلب تلك الفوضى العارمة، وستظل الحياة فيها تدور مثل رحى لاتتوقف عن ذلك النحيب بفعل تتابع العام تلو العام دون جدوى، خاصة أن الفلاح المصرى الذى اشتهر بكرمه منذ القدم، وظل يعتمد على ما لديه من مقومات أصبح الآن فى العراء يشارك المدن فى أزماتها، بعد أن أصبح يأكل من يد غيره، متناسيا تماما حكمة بليغة قالها "جبران خليل جبران" وغنتها فيروز قائلة :

ويل لأمة تلبس مما لاتنسج/ وتأكل مما لاتزرع/ وتشرب مما لاتعصر/ ويل لأمة تحسب المستبد بطلا/ وترى الفاتح المذل رحيما / ويل لأمة لا ترفع صوتها إلا إذا مشت بجنازة/ ولا تفخر إلا بالخراب ولا تثور إلا وعنقها بين السيف والنطع/ ويلٌ لأمة سائسها ثعلب/ وفيلسوفها مشعوذ/ وفنها فن الترقيع والتقليد/ ويلٌ لأمة تستقبل حاكمها بالتطبيل وتودعة بالصَّفير/ لتستقبل آخر بالتطبيل و التزمير/ ويلُ لأمة حكماؤها خرس من وقر السنين/ ورجالها الأشداء لا يزالون فى أقمطة السرير/ ويلٌ لأمة مقسمة إلى أجزاء/ و كل جزئ يحسب نفسه فيها أمة.

 

لقد كان الفلاح المصرى قبل دخول الألفية الجديدة بمعزل عن مشاكل أساسية يتسم بها المجتمع المصري، غير أنه شيئا فشيئا زحفت تلك المشاكل إلى عقر دار الفلاحين، وبدأت تظهر نتائجها السلبية على طبيعة التركيبة الاجتماعية لأهل الريف، فبدأت التقارير الحقوقية ترصد جرائم متكررة، وحوادث عنف متبادلة بين الفلاحين، أى أن الضغوط النفسية على أهل الريف بدأت تؤتى ثمارها السيئة أسوة بتجربة المصريين فى المدن.

 

لقد أصبحنا نقرأ مع كل صباح جديد أن يقتل الشقيق شقيقه، وتستباح حرمة دم ذوى القربى، ويصبح السؤال الجوهرى هنا: ما الذى تبقى فى الريف المصرى ولم يتغير أى مواد مسرطنه تسللت الى أصول القرية وأخلاقها وتقاليدها فدمرتها لتصبح الطيبة والتسامح والكرم أطلالا وذكرى، فى ظل تلك الحياة الخانقة بمشكلات العصر التى تؤثر على راحتنا النفسية.

 

يحتاج الإنسان فى بعض الأحيان إلى ما يزيح عنه تلك الهموم والمشكلات، وتجدنا أحيانا نبحث عما يروح عن أذهاننا حتى ولوكان ثمنه غاليا، ولكن أحيانا نفرج عن أنفسنا بأبسط الأمور عندما ننظر إلى لوحة فنية معبرة عن ذلك الريف المصرى الذى كان، وما به من مناظر كانت بسيطة وخلابة تؤثر فى أعماقنا وتنشر الفرحة فى نفوسنا، ربما تبدو بسيطة، لكن يبقى لها تأثير نفسى عميق يحتاجة كثير منا فى تلك الأوقات العصيبة.

 

ترى هل يكمن الحل فى الصمت والصبر على البلاء كما يقول وهيب بن الورد: الحكمة عشرة أجزاء، فتسعة منها فى الصمت، والعاشرة عزلة الناس"، ويقول عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه: إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت ويهرب من الناس، فاقتربوا منه، فإنه يلقن الحكمة"، وأيضا قال على رضى الله عنه: إذا تم العقل نقص الكلام، فإن الصمت يثمرالحكمة، فإن الحكمة تثمر قلة الكلام.

 

ظنى أن "الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل"، وهى آفة عصرنا الذى اكتظ بالصراخ والعويل، بعدما أصبح للدراما فعلها الرجيم فى حياتنا، ولعل لنا فى كلام "الإمام الشافعي" قدوة حسنة فى قوله: "إذا أراد أحدكم الكلام فعليه أن يفكر فى كلامه فإن ظهرت المصلحة تكلم، وإن شك لم يتكلم حتى تظهر".

 

إذن يبدو لى الأمر كما يبدو لـ"وليم هنريت" بأن "الصمت فن عظيم من فنون الكلام"، بل هو فضيلة عظيمة ينبغى أن نتعلمها فى زمننا الحالي، فإن جولة قصيرة فى ريف مصر وحضرها الآن تعطيك تصورا عن حجم الإزعاج وحدة الضجيج التى فعلا تثير الأعصاب، فالباعة الذين يفترشون الطرقات والمباريات التى تجرى بينهم من تمتع بالصوت الأقوى والأجش وقدرته على إيصاله إلى أبعد مدى، دون مراعاة لأحد، عدا عن عرقلة السير نتيجة ذلك وانتشار الأوساخ والقاذورات الناجمة عن السلع التى تباع، كل ذلك كفيل وحرى بنا أن ندرك قيمة الصمت وبلاغة التوقف عن نزق حديث بلا جدوى.

 

وينصح عالم نفس بريطانى المرأة , بقوله : اعتمدى الصمت الفعال، أى أن تكتفى بالتعبير عن غضبك واستيائك بنظرات حادة وثاقبة من عينيك فقط، عندها سيترجم الآخرون صمتك على أنه ثقة زائدة فى النفس، وقوة غامضة تجعلهم يحارون فى رد فعلك، ويصعب عليهم توقع ما سيصدر عنك، عندها ستدركين أن للصمت قوة خارقة توقف الآخرين عند حدهم.

وأخيرا يقولون أن الصمت لون من ألوان الموت، أو على الأقل درجة من درجاته، لكن القروى ذلك الإنسان البسيط تجده لايخشى ذلك اللون، لأنه اعتاد الصمت لغة وحديثا ذو شجون، لذا كان ريفنا المصرى طوال قرون مضت مصنعا للخيال، وهو مادفع السينما لمعالجة موضوع الريف والفلاح فى غلاله من الوهم عن الواقع الفعلى على واقع القرية، فتمّ تحويل خيال عامة الناس عن الريف كأنها قصيدة رعوية وثيقة الصلة بالطبيعة.

ونتذكر هنا كلمات أغنية "محلاها عيشة الفلاح" والتى كتبها بيرم التونسى وغناها محمد عبد الوهاب، قائلا : "محلاها عيشة الفلاح/ مطمن قلب مرتاح/ يتمرغ على أرض براح/ والخيمة الزرقا ساتراه/ واللقمة يأكلها ومبسوط/ إكمنه واكلها بشقاه/ الشكوى عمره ما قالهاش/ إن لاقى أو ما لاقاش"، لنكتشف أنّ تلك الكلمات جميلة، لكنها تبدو غير حقيقية فى هذا الزمن البغيض.. ألستم معى؟!.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة