محمود عبد العزيز يكتب: بقايا رجلٌ مُتهالِك

الخميس، 18 أكتوبر 2018 08:00 ص
محمود عبد العزيز يكتب: بقايا رجلٌ مُتهالِك محمود عبد العزيز

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فى نصف ربيعه الأول، كان لا يزال بعافية. حمل على عاتقة بسمة مزيّفة. وحلما بائسا. وكومة خيالات لن تتحقق، لكنه سعيد بها. ولم ينس وسط تلك الدروب التى لحقت به، ذكرياته المدفونة فى خزانة عقله. وظلّ يُكابر بعنادٍ لهذا الحِمل ثقيل الوطأة، حتى أدركه نصف ربيعه الثانى وقد خسر كل شىء.

جُرَّ من خيالاته التى تؤرّقه حيناً، إلى واقع لم يستوعب طموحاته وأحلامه، لم يكن عطوفاً معه بالقدر التى توقّعه. كل ما فعله أنّه استخف بسذاجته، وأحّكَمَ قبّضته ثم لكمه وزجره، تاركاً خيباته تصافح بعضها بعضاً.

ما تبقى لديه، بقايا رجلٌ مكتوم. مكلوم. مُثّقل بأطنانٍ من الهموم. انتصر الجميع عليه فى معارك استثنائية دارت رحاها فى غفلة من الزمن. قاتلوه بكل أسلحتهم، نكّلوا بتلك الجثة المهشمة، ثم تركوه يتلوّى من الألم، وسط بركة من الدماء فى محيط جسده الجريح، لا يقدر على شىء. لا يقدر حتى على الرحيل أو المواجهة.

ذلك الرجل الذى شارف على الموت. تطاحن البعض عليه. نالوا منه. تقاسموا فيه الوجع، تبلّدت روحه المتمردة، وباتت تطلب مزيداً من الاقتتال حولها، فقد سار الوجع جزءً منها.

وقف أمام أولئك المُحلّفين، وقال بصوتٍ جهور، يتخلّله بطش رجل جبار استوطن قلبه فجأة: "أنا رجلٌ كادت روحه تُنّتزع. الذى أمامكم بقايا إنسان. بقايا أجزاء من عفنكم وظلمكم. كفى تقطيعاً فى أوصالى. تباً لكم. سيخرج الصبح رغماً عنكم".

لم يسمعه أحد. عاود الصراخ مهلّلاً، فلم يجبه سوى أنين صداه.. !

حينها قرر الرحيل. لا بد من الرحيل عن هذا العالم. لا بد من الهروب بقدر ما يملك، بقدر ما فى جيبه من نقود أدخرها لمثل هذا اليوم المشؤوم. قاربت روحه وجسده على النهاية. تعبتا من الانتظار والألم والحسرات التى تشتعل فى صدره المتهالِك، حتى فكرة الرحيل باتت هاجساً يراوده بالتراجع، ينخر فى ذاكرته كل لحظة، وقف فى منتصف طريق مِعّوج، عاجز عن الحركة، وكأنّ الدنيا بأسرِها تكالبت عليه فجأة.

نظر إلى جسده المُهلّهل، قائلاً بصوتٍ مُنهك: "إنّما ذلك الشخص الذى يبدو صلباً أمامكم، هو بقايا رجل. بقايا روح. بقايا مشاعر مترهلة، واحساس مهزوم، وقوة أضحت عبئاً. بقايا حفنة من الأمل، وحفنة من الألم، وحفنة ثالثة لا أعلم مخبأها فى صدرى".

فيا أيتها الروح الساكنة فى الجسد. يا أيها الإنسان المزعوم الذى فقد المتكأ. يأيها الشاب المتعالى الذى أصابه الغرور. ويا أيتها النفس المذبذبة التى تهوى الخروج عن المألوف، فلتعلموا جميعكم أنكم صدى يتواكب سيّره مع اتجاه هذا العالم. صدى يجثم على القلب، فيُطلّ برأسه الخبيثة منتظراً انخراطاً طفيفاً، ليستفحِل بهيمنته، ويفرض ذاته من جديد، فليستُ الروح  بحاجة إلى هذه المُصاهرة، كفي. أستحلفكم بكل ما أوتيتم بمعاقل القوى، كفى.. كفى تنقيباً واستغلالاً وقهراً.. كفى نفساً متهالِكة، وقلباً خانعاً.

"فإن ذلك الرجل كان يريد العيش فى سلام.. فهل تدرون حقاً ما هو السلام؟!".

 







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة