إن ما يحدث على الساحة السياسية اليوم ما هو إلا مادة غنية لكل كاتب ومحلل يشخص ما كشفت عنه الانتخابات الرئاسية من أسقام فى القوى المدينة.. بادئ ذى بدء لو علقت القوى المدنية فشل تكوين جبهات قوية معارضة وتيارات مدنية على قمع خارجى أو ترويع من قبل النظام الحاكم، فلن يكون ذلك المشهد إلا طفولة سياسية.
فكلنا نعلم أن القمع يولد العند، وإن صح وجود قمع وقهر واستبداد من قبل نظام ما – على العكس تمامًا - فستزداد القوى المدينة وحدة، فالعذاب المشترك والظلم الواحد يوحد تحت رايته ويشحن النفوس ويعطى طاقة غل مكنونة تشكل تيارات مدنية شعبية ضد القهر والظلم. وهو الذى يحدث دائمًا فى الثورات وفى إفراز زعماء المقاومة مثل غاندى وجيفارا .
إذن غياب القوى المدنية والمعارضة ينفى تمامًا وجود قمع أو استبداد. على العكس من مصلحة النظام الحاكم استعراض قوته وانتصاره على مرشحين آخرين، وليس فى مصلحته الانتصار السهل.
ولكن بعد ثلاثين عامًا من البيات السياسى وحتى ثورة الخامس والعشرين من يناير تفاجأ الجميع أن كلنا أصبحنا نتحدث سياسة، ولكن هناك فرقت بين الحديث السياسى وبين تشكيل كيانات مدنية.
فالحديث السياسى مجرد نوع من أنواع الدردشة غير المنظمة ولا الموجهة، وهذا ما حدث أصبحنا جميعًا ندردش فى السياسة بشكل بوهيمى فقط.
ولكن لم نستطع حتى الآن تكوين كيانات سياسية حقيقة موحدة.. فظل الوطن يترنح من الخامس والعشرين من يناير 2011 م حتى حكم الإخوان، وعندما شعر الشعب باستبداد ذلك التيار انتفض وتوحد لخلعهم من على عرش مصر وبالفعل نجح، لأن الاستبداد كان عامل محفزًا للشعب والتوحيد.
ولكن حتى بعد ذلك لم تتوحد كيانات واضحة الملامح كلها معارضة مفتتة هشة تتسع بينها الفجوات التى تملأها الأهواء الشخصية والاختلاف غير القابل للاحتواء والتخبط، حتى اكتشفوا افتقارهم لمرشح واحد حقيقى له برنامج ومطالب واعتراضات.
اكتشفوا فجأة أن أى اعتراضات على النظام الحالى كانت مجرد دردشة سياسية وليس لسان حال كيان سياسى له ملامح، وله حجة فى الاعتراض، وعندما تعرت تلك الحقيقة أمام الذين فشلوا فى تكوين تلك الأصرح السياسية المنافسة علقوا فشلهم على النظام، وعلى ترويعهم من دخول الانتخابات وادعاء البطولة الكاذبة وأن الانسحاب أشرف.
سؤال يطرح نفسه: اليوم أقرر أن أترشح لقيادة دولة كبيرة وغدًا أقرر الانسحاب.. أهذه هى القوة السياسية التى تستطيع أن تقود؟ أهى احترام لمؤسسات الدولة والشعب؟ أى تهديد يستطيع أن يجبر مرشح رئيس جمهورية على الانسحاب؟ القتل مثلا الاغتيال مثلا؟
فاغتيال الجسد كان أكرم لهم من الاغتيالات المعنوية التى طعنوا بلدهم بها لإحراجها أمام العالم وتشويه صورتها وتصدير فكرة القمع غير الصحيحة، ووضعها فى مأزق – كما اعتقدوا - وعرقلة طريقها وهم يعلمون أن العالم كله ومنظمات حقوق الإنسان والمنظمات التى تراقب الانتخابات تتربص لمصر، لكى تقول إن مصر بلد قمع الحريات.
إن الكارثة الكبرى ليست اليوم ولا الخيانة الوطنية التى ارتكبتها الكيانات السياسية فى حق مصر، ولكن بترتيب الأولوية وبغض النظر عن المؤامرة التى قرروا حياكتها لوضع مصر فى صورة الدولة القاهرة للحريات، فإن الكارثة الكبرى تنتظرنا بعد أربع سنوات من العام الحالى حينما ندرك أنه لا يوجد على الساحة كيان وتيار مدنى أو شخص بعينة مهما كانت خلفيته يستطيع أن يتحمل مسئولية مصر، ووقتها لا نلعن الظلام ولا نعض بنان الندم إذا عادت تيارات الإسلام السياسى تحلم بعرش مصر الذى لن تنال منه أبدًا. ولكن حينها بماذا سيبررون فشلهم فى الترشح؟..
النظام؟ أم أنفسهم؟ فقوى المعارضة والمدنية والشعبية لم تؤدى مسئوليتها الوطنية اليوم، وقررت أن تنتحر وتكتب شهادة وفاتها .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة