أيمن عثمان رزق يكتب: التجربة الفنلندية فى التعليم والدروس الستفادة

الجمعة، 26 يناير 2018 08:29 ص
أيمن عثمان رزق يكتب: التجربة الفنلندية فى التعليم والدروس الستفادة تلاميذ - أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يستهدف هذا المقال إلقاء الضوء على التجربة الفنلندية فى مجال التعليم، وما أنجزته فنلندا من تفوق ملهم فى هذا المجال، ورصد أهم أسباب ومظاهر ذلك التفوق، مع استعراض أهم ملامح النظام المدرسى وتوجهاته، وما يحصل عليه الطلاب الفنلنديون من خدمات تربوية وتعليمية متميزة ودعم متواصل، مروراً بأحوال المعلمين ونظم إعدادهم الفائقة التى ساهمت فى إحداث ذلك الفارق الملموس فى المنافسة التعليمية بين فنلندا وغيرها من الدول.
 
أحرزت فنلندا إنجازات ملهمة فى مجال التعليم قد لا تحققها حتى أكثر الدول تقدمًا، نظرًا لظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الفريدة، فقد تمكن النظام التعليمى الفنلندى من الوصول إلى التفوق والصدارة من خلال ما يقدمه من خدمات متميزة ومتنوعة لطلابه، علاوة على حسن اختيار وإعداد المعلمين ومديرى المدارس، وتقليص الضغوط المالية والنفسية على كل من الطلاب وأولياء الأمور، والنجاح فى نشر وترسيخ ثقافة الثقة داخل المؤسسات التعليمية.
 
إن ما حققته فنلندا من تفوق تربوى وتعليمى أمر يستدعى التأمل العميق فى تفصيلاته والتوقف الطويل أمام أسبابه ومقوماته، وهو ما جعلها مثار اهتمام وحسد الكثير من الدول. فقد انفردت فنلندا بقمة التقييمات الدولية دون منازع، حيث تفوقت على باقى دول العالم وفق أى مقياس تعليمى تقريبًا، واستحقت عن جدارة تلك المكانة المرموقة التى جعلت بعض الباحثين يطلقون عليها "الظاهرة الفنلندية" أو "المعجزة الفنلندية".
 
فمنذ نشر نتائج الاختبارات الأولية للبرنامج الدولى لتقييم الطلاب والمعروف باسم (PISA)  فى عام 2001، والتى تعقد تحت إشراف منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، وتهدف إلى قياس قدرات الطلاب فى مجالات القراءة والرياضيات والعلوم، وتعقد بشكل دورى كل ثلاثة أعوام، تمكنت فنلندا - وبشكل ثابت - من احتلال قمة تلك التقييمات.
 
وفى محاولة للتعرف على أسباب ذلك النجاح، توالت وتنوعت فرق ووفود الباحثين والخبراء التربويين وصانعى السياسات والمهتمين على اختلاف أولوياتهم وانتماءاتهم من جميع أنحاء العالم إلى فنلندا، كما انهالت الدعوات على خبراء التعليم الفنلنديين من كل حدب وصوب لزيارة الدول والمؤسسات الساعية إلى استكشاف وفهم ما حققته فنلندا من تقدم تربوى وتعليمي، لإلقاء المحاضرات بهدف التعريف بتفصيلات تلك التجربة وأبعاد ذلك الإنجاز.
 
يبدأ الأطفال فى فنلندا تعليمهم الإلزامى فى سن السابعة، ويحصلون على الخدمات التعليمية المجانية فى جميع مراحل التعليم، على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية أو خلفياتهم الثقافية أو العقائدية فجميع الطلاب سواء فى هذا الأمر. ويحصل الطلاب على مستوى متقارب من الخدمات التعليمية على اختلاف مدارسهم، كما تُقدَم لهم المصادر التعليمية مجانًا من خلال الدولة التى تعتبر نفسها مسئولة مسئولية تامة عن تعليم جميع مواطنيها.
 
ومن الأمور التى تستدعى الاهتمام ذلك التقارب الكبير والملموس فى محصلات تعلم الطلاب - والمقصود بها ما يكتسبونه من معارف ومهارات واتجاهات وقيم - فالفروق فى محصلات تعلم الطلاب بين المدارس متقاربة، كما أن الفروق فى محصلات تعلم الطلاب داخل نفس المدارس أكثر تقارباً.
 
ومن أمثلة الدعم الذى يحصل عليه الطلاب فى مرحلة التعليم الأساسى الحق فى الاختيار بين توفير وسيلة انتقال مجانية أو الحصول على بدل نقدى إذا ما كانت مدارسهم تبعد أكثر من خمسة كيلومترات عن منازلهم. ويتشارك الطلاب فى المدارس الفنلندية الطعام، ويحصلون على نفس الوجبة الغذائية المجانية، وهو ما يعزز قيم المساواة والعدل، تلك القيم التى تحظى باهتمام بالغ فى المجتمع الفنلندى، وترتكز عليها فلسفة التعليم. كما يتشاركون اللعب خلال فترات الراحة الإجبارية بين الحصص الدراسية، وهو ما ينعكس إيجابًا على تعزيز نموهم النفسى والاجتماعى والبدني. 
 
ويستهدف التعليم الفنلندى تعظيم نمو الطلاب فى كافة الجوانب، والانخراط فى أنشطة التعلم وتعزيز احترام الذات، حيث يتعلمون بدءًا من مرحلة رياض الأطفال تبنى وتنمية السلوكيات والأفعال السليمة والاتجاهات التى تعكس احترام الذات والآخرين والثقافات الأخرى، كما يتعلمون تدبير أمورهم والاهتمام بأنفسهم وبالآخرين من خلال تعليمهم الاعتماد على الذات واتخاذ القرارات الهامة المتعلقة بحياتهم. ويحصل الطلاب على فترة استراحة إجبارية خارج حجرات الدراسة لمدة (15) دقيقة بعد كل حصة دراسية مدتها (45) دقيقة، ويقوم المعلمون خلال تلك الفترات بتشجيع طلابهم على ممارسة الألعاب الرياضية التقليدية، لما لها من تأثير إيجابى ملموس على صحتهم، وتعزيز قدراتهم على التركيز والتعلم.
 
ومن المثير للاهتمام ورغم تفوق الطلاب الفنلنديين على أقرانهم من باقى دول العالم فى الاختبارات الدولية، فإنهم لا يخضعون تقريبًا لأى اختبارات قبل المرحلة الثانوية، حيث ينصب التركيز على عمليات التعلم وتنمية قدراتهم على التفكير والاستكشاف وحل المشكلات، من خلال العمل الجماعى فى القيام بالمشروعات التعليمية. وحقيقةً فإن ذلك التوجه يأتى متوافقًا مع نتائج الدراسات التى انتهت إلى أن الطلاب يتعلمون، بل ويؤدون بشكل أفضل فى الاختبارات عندما يقوم معلموهم بالتركيز على التعلم أكثر من نتائج الاختبارات.
 
كما لا يُطلَب من الطلاب فى فنلندا القيام بأى واجبات منزلية، أو نادرًا ما يحدث ذلك، وهو ما يساهم فى خفض الضغوط على كل من الطلاب والمعلمين وأولياء الأمور، ويُمنَح الطلاب المزيد من الوقت للتعلم دون ضغوط.
 
وقد برر البعض الطفرة الفنلندية فى التعليم بتبنى فنلندا لبرامج عظيمة الفعالية عالية الجودة شديدة التميز لإعداد المعلمين.
فالالتحاق بكليات المعلمين ليس أمرًا سهل المنال متاحًا للجميع دون قيد أو شرط، حيث يتطلب الأمر بدايةً الحصول على تقديرات مرتفعة فى المرحلة الثانوية، ومن ثم التقدم إلى كليات المعلمين واجتياز الاختبارات المؤهلة للالتحاق بها، والتى تستوجب إعدادًا مكثفًا واستعدادًا كبيرًا من جانب المتقدمين. ويكون لزامًا على الطلاب المقبولين فى كلية المعلمين الحصول على درجة بكالوريوس التربية الذى يستغرق ثلاثة أعوام، ثم درجة الماجستير فى التربية لمدة عامين قبل البدء فى مزاولة مهنة التدريس.
 
ويمكن فهم الصعوبة الشديدة فى الالتحاق بكليات المعلمين فى ضوء مراجعة نسب القبول بها، حيث يتم قبول (10%) فقط من بين جميع المتقدمين لكليات المعلمين، بل إن بعض الراغبين قد يعاودون التقدم لعدة سنوات آملاً فى أن يحالفهم الحظ ويحصلون على فرصة للدراسة بكلية المعلمين، وهو ما يعكس المعايير الدقيقة والتدابير المحكمة التى تتبناها فنلندا فى اختيار معلميها. ويكون التركيز على انتقاء المتقدمين الأكثر دافعيةً وحماسةً ورغبةً فى التعلم. وبناءً على ذلك، فقد أصبحت مهنة التدريس هى المفضلة لدى الشباب والأكثر احترامًا فى المجتمع الفنلندي.
 
ويعمل المعلمون الفنلنديون فى بيئة إيجابية ومشجعة للغاية، وباعثة على الإجادة والإبداع والتميز، فالمعلمون الفنلنديون يقضون فى الفصول الدراسية قرابة (600) ساعة سنويًّا، وهو ما يعطيهم الوقت والفرصة للقيام بمزيد من البحث والتعلم والتفكر والتنمية المهنية، بينما يقضى نظراؤهم الأمريكيون قرابة (1100) ساعة سنوياً، أى الضعف تقريباً.
 
ويعتمد المعلمون على الدعم المهنى الذى يحصلون عليه من زملائهم، حيث يتبادلون الأفكار والخبرات وزيارات الفصول ومناقشة الأمور التربوية والتعليمية، بغرض مشاركة الممارسات التدريسية الفعالة وتحسين الأداء. ولا يوجد جهاز تفتيش فى النظام التعليمى الفنلندي، مما ساهم فى خلق بيئة تعليمية ملائمة وداعمة، كما قلص حجم التهديد والضغوط التى يتعرض لها المعلمون. وعلى هذا فإن غالبية المعلمين فى فنلندا يستمرون فى ممارسة مهنة التدريس حتى بلوغهم سن المعاش، أما نظراؤهم الأمريكيون، فيغادر قرابة نصفهم مهنة التدريس خلال السنين الخمس الأولى من عملهم بالتدريس وفقاً لبعض الاحصائيات.
أما مديرو المدارس، فيتم اختيارهم فى ضوء المقابلات واجتياز الاختبارات النفسية التى تؤهلهم لقيادة مدارسهم وتصريف شئونها كقيادات تربوية مبدعة، على أن يكونوا من المعلمين ذوى الخبرات، ويتم منحهم صلاحيات كبيرة فى إدارة مدارسهم، ومنها اختيار هيئة التدريس والعاملين، ومن ثم فهم مسئولون فى المقابل عن نتائج مدارسهم.
 
وخلاصة القول فإن التجربة الفنلندية لها تفردها وخصوصيتها، فقد توافرت لها من الظروف والعوامل ومقومات النجاح ما يصعب توافره حتى للدول الأكثر رقيًّا وتقدمًا، فالسياق الفنلندى وما يشهده من رخاء اقتصادى وتقدم تكنولوجى وتجانس سكاني، قد أسس ورسخ لتحقيق تلك القفزة الكبيرة، وعلى هذا فلا يمكن بحال من الأحوال نسخ تلك الخطط والممارسات ونقلها إلى أى مكان آخر كما هى بشكل حرفى.
 
ولكن يبقى على صانعى السياسات ومتخذى القرار والباحثين وجميع الفاعلين فى كل مكان التوقف طويلاً أمام تلك التجربة الرائدة ومراجعتها بتأملٍ وتأنٍ، مع ضرورة الأخذ فى الحسبان الخصوصية الفريدة لكل من السياق الفنلندى والآخر المنقول إليه، واستنباط وبلورة الأفكار والمبادرات القابلة للتطبيق فى بيئات أخرى، من خلال رصد وتحليل الدروس المستفادة وتحديد الممارسات الناجحة التى قد يمكن استعارتها من "المعجزة الفنلندية".









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 3

عدد الردود 0

بواسطة:

Taha abdelmonem

أيمن عثمان رزق يكتب: التجربة الفنلندية فى التعليم والدروس الستفادة

مقال جميل ومبشر بالارتقاء بمستوى التعليم ووياريت تتعمل فى مصر

عدد الردود 0

بواسطة:

على خلف

التعليم

التعليم احد اهم العناصر تقديم الامم فا بالعلم بني بيوت لا العلم يبني امم التعليم في مصر اصبح عائق على تقدمها لانه تعليم عقيم لا يصلح لتقدم دوله ويجب الاستعانه بالتجارب الناجحه مثل التجروبه الفنلنديه

عدد الردود 0

بواسطة:

رحيل هيكل

تجارب تستحق التأمل

اكيد تجربه مثل التجربه الفنلنديه او(المعجزه الفنلنديه) كما اشار اليها دكتور ايمن في مقاله الرائع والذي ناقش فيه كل عوامل نجاح تلك التجربه... تلائم طبيعة بلد فنلندا بكل مافيها من تقدم وارتقاء... ولاحظنا انضمام عاملين رئيسيين وهما الغذاء والمواصلات... وهي عوامل ساعدت علي نجاح تلك التجربه.... وننادي بتطبيق مثل هذه التجربه مع مراعاة الظروف المحيطه في دوله مثل مصر لما بها من مواطن ضعف شديده .... من اجل الارتقاء بالمستوي التعليمي بها.... وباعتذر علي الاطاله

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة