حسام الدين جمال يكتب : علمينى يا خالة !

الأربعاء، 17 يناير 2018 02:00 م
حسام الدين جمال يكتب : علمينى يا خالة ! سيدة عجوز

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

الدنيا أيام يذهب بعضها، ويجىء غيرها تحمل فى طياتها أفراحا و آلاما ، و الخاسر من سعى فيها للراحة و قد علم أن لا راحة هنا و لا قرار! و يُخيل إلى كثير أن ثمة صدوعٍ وشقوقٍ فى كل قلبٍ حى تعادل ما ابتلى صاحبه فى أيامه، وكلما تقدم العمر كلما اشتد الصدع !

فأواه لو كنا نملك الكشف عن الصدور !

فلا أكاد أنسى ذلك اليوم حين كنت شاهدا على مأتم فقيدٍ لى، فوقفت أقلبُ نظرى تارةً أتلمح عظمةَ الموت وقهره ، وتارة أخرى أتأمل آهات الحاضرين وجزعهم، إلا أن بصرى وقع على إحداهن ! وقد ذهلها الخشوع عن التبرم، إلا أن وجهها يشى بوجع وتألم، وعلمت من بعض الحضور دنوها رحماً وقرابةً من الفقيد، فعجبت لرباطة جأشها على كبر سنها ! فدنوت منها قائلا: " يا خالة عظم الله أجرك .. رأيتك أثبت الحاضرين فؤادا، وأعظم الجالسين ثباتا ! فعجبت لحالك وأنت التى يجمعك بفقيدنا رحم و دم ! أولستِ أولى بالبكاء و النحيب ؟!

فصاحت مبادرة : "حسبك بنى .. إنما الولاية لله الحق إذا ما نزل الموت !

فقلت لها :و نعم بالله !

فاستكملت :" يا بنى أن من بلغت من العمر مبلغى تعلمُ من الدنيا حقيقتها، أن مثلى لا تغرنها زينة الدنيا الآثمة، و لا يخدعنها زخرف الحياة الباطلة، فكم من وليد ولدت ! و كم من عزيز بكيت !

يا بنى إذا ما رحل عنا الأحباب، وإذا فارقتنا أيام الشباب، فما الحياة بعد ذلك ؟!

فقلت : " ألا يحزنكِ مشهدُ الموتِ يتخطفُ الناس من حولكِ ؟!

فأطرقت هنيهة ثم ردت : " يا بنى إنما الموت لقاء ! وإن مثلى لا تجد فى الموت ما تخشاه ما دامت قد اسلفت صالحا .

فتأملت قليلا ثم بادرتها قائلا : " يا خالة إنى أرى فى وجهك علاماتِ ألمٍ مقيم، ولقد بلوتِ من الدنيا ما بلوتِ إلا إننى أراكِ اليوم بالثبات راسخة، و أجدك اليوم بالصبر شامخة، أفلا تعطينى سر الحياة !

فقالت لى : " يا بنى كلما تقدمت بك الأيام كلما سطت عليك الدنيا واستولت، فإن وجدت منك فراغا تملؤه، أو حيزاً تشغله ملكتك و لم تملكها ! و أورثتك شقاءاً ينوءُ به ظهرُك، و يعجُز عنه صبرُك .

فبدت على وجهى سيماءُ القلق، و قلت لها متلعثما : " وما أفعل أنا إذ ذاك - بالله خبرينى - يا خالة ! علمينى يا خالة وأنا الحدث الجاهل، اعطينى يا خالة وأنا الفقير السائل، ما أفعل اذ ذاك ؟

فسكتت حينا ثم ردت : " يا بنى اجعل فى قلبك حياةً دائما، لا يتخللْنه شقاءٌ و لا وهن !

- أيفرغ قلب إنسان من الحياة وهو يعيش ! فما تلك الحياة إذن ؟! و أنى لى بها ؟

فأطرقت ثم قالت: " أى بنى ! الحياة فى كل معروف ابتغيت فيه رضا من فى السماء، ولو سخط من فى الأرض .. الحياة فى كل بسمةٍ رسمتها لم تبتغ عليها جزاء ولا شكورا .. الحياة فى كل نسمة تتنشقُها حين يخلو قلبك من زيف الدنيا و كذبها .. ألا ترى أن المرء أسغدُ ما يكون إذا كان صغيرا و حين يشيخ ! و ما يجمعُ بين الاثنين - على بعد المسافة - إلا خلو قلبيهما من آثام الدنيا، و فراغُ نفسيهما من هموم الحياة .

فقاطعتها : " ولكن من ينظر فى وجهك يظن أن فى نفسك هموما و كر.... "

فصاحت مقاطعة : " خاب ظنك و كذب فألك يا بنى ! هذا ما تظنون و الحقيفة وراء ذلكم ! إننى فى هذه الحياة لا ألوى على شى، لا أحملُ لليوم عبئاً، ولا أضمرُ للغد هما .. يا بنى قالوا أن الياس أحد الراحتين .. فليس اليوم أسعد منى نفسا، و لا أهنأ منى بالا !

فقلت لها : " إنى لأجدٌ فى حديثك سكينةً تطمئنُ إليها نفسى، و هدوءاً تسعدُ به روحى، آه لو كنت لقيتك منذ زمنٍ لعلى خففتُ من هذا الشقاءِ الذى يملكُ جوانبى، و لعلى أضفت من سكينة نفسك إلى اضطراب نفسى فابرأ مما علق بها !

فوقعت كلماتى منعها موقع العجب و الاندهاش لتبادرنى : " عجباً لك أيها الشاب ! أى بأسٍ وأنت لازلت فى مقتبل العمر! و أى يأسٍ وأنت لم يشبْ منك الشعر ! إنما الياسُ صنيعةُ الانسان يرتكبُها بنفسه، و جريمةٌ يقترفُها المرء بحقِ روحه، ثم يتهمُ القدرَ بالترصدِ له و يعاتبُ الزمانَ على التعنت ضده، و هو الفاعلُ نفسه !

فخجلت من أثر كلامها قائلا : " يا خالة أنى لك ذلكم الثبات ؟ "

فقالت : " إنى أتقرب إلى ربى بذلكم الثبات ! حسبى أن أقف أمام ربى و قد عشت دهرا ما جزعت فيه على فرط الاوجاع، و قد قضيت عمرا ما مسنى فيه اليأسُ ع كثرة الفواجع ! حتى إذا وقفت للحساب شفع لى عند ربى حسن ظنى به فما كان لييلونا فنصبر إلا ليرفعنا بذلكم درجات تنسينا ما سلف . إنى على وهن جسمى قوية بروحى راسخة بقلبى .

- " يا خالة ألكِ حاجةٌ نقضيها لكِ .؟.

فقالت فى صوت ساكن وديع : " ما عند الله خير.. ما عند الله خير " و أخذت ترددها إلى أن خفت صوتها و اختفى .

و أذكر أنى عدت إلى ذلك الحى - فى يوم- فسألت عنها، فقالوا ذهبت ! فقلت إلى اين : قالوا إلى لقاء ربها !

فأطرقت حزنا ،، و لازلت أردد قول الشاعر :

تطلبُ الراحةَ فى دارِ العنا ... خابَ من يطلبُ شيئاً لا يكونْ










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة