يروى الإمام محمد عبده فى مذكراته أن أحد الضباط الذين كانوا فى معية الخديو توفيق سأل الخديو: «ما مصير الإسكندرية لو ضربها الإنجليز؟»، فأجاب: «ستين سنة» وهز كتفيه، ويفسر طاهر الطناحى، محقق المذكرات الصادرة عن «دار الهلال، القاهرة»، إجابة الخديو قائلًا: «لعله يقصد ستين سنة احتلالًا إنجليزيًا لمصر».
يستكمل الإمام: قال الضابط: لكن السكان سيحرقونها، فأرجو أن تتوسط لدى الأميرال سيمور، القائد العام لأسطول البحر المتوسط البريطانى، والوقت لم يزل يسمح بذلك، استدع «ذو الفقار» وأمره أن يحافظ على المدينة فعنده من الرجال الكفاية، فرد الخديو: «فلتحترق المدينة جميعها ولا يبقى فيها طوبة على طوبة، حرب بحرب، كل ذلك يقع على رأس عرابى وعلى رؤوس أولاد الكلب الفلاحين، وسيذوق الأوربيون الملاعين عاقبة هروبهم مثل الأرانب».
دار هذا الحوار فى الإسكندرية يوم 11 يوليو «مثل هذا اليوم» عام 1882 وفقًا لمذكرات الإمام، وذلك قبل أمر «سيمور» بضرب المدينة فى صباح «11 يوليو». ويروى أحمد شفيق باشا دراما هذا اليوم كشاهد عيان، حيث كان من حاشية الخديو، مشيرًا فى مذكراته الصادرة عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة» إلى أن «سيمور» أنذر الجيش المصرى بإيقاف الأعمال فى «طوابى» الإسكندرية، والكف عن وضع المدافع فيها، وإنزال ما تم نصبه منها، وفى يوم 10 يوليو أرسل إنذارًا نهائيًا إلى طلبة عصمت باشا، قائد الجيش فى الإسكندرية، بتنفيذ مطالبه خلال أربع وعشرين ساعة، وإلا سيدمر هذه الطوابى، وأمام هذا التهديد دعا الخديو توفيق إلى عقد «مجلس فوق العادة» برئاسته فى سراى رأس التين حضره راغب باشا، رئيس الحكومة، وأحمد عرابى، ناظر الحربية، وباقى النظار، وسلطان باشا، رئيس مجلس النواب، وبعض الأعيان، وقادة عسكريون.
يؤكد شفيق باشا أن المجلس رفض طلبات «سيمور»، ويضيف: «تأكدنا عزمه على إطلاق مدافع المدرعات عند بزوغ الشمس، واضطر الخديو أن ينتقل ومن معه إلى مكان بعيد عن الأخطار»، وأشار إليه مستر «كارترايت»، نائب قنصل إنجلترا، أن ينزل وأسرته إلى إحدى البوارج الإنجليزية، لكن الخديو رفض، وانتقل هو ومن معه إلى سراى مصطفى باشا، بالقرب من سيدى جابر. ويؤكد «شفيق»: «هرعنا جميعًا إليها، رجالًا ونساء وأطفالًا، وكانت السراى خالية، مهجورة منذ مدة طويلة، فدخلناها على غير استعداد بها، واستوى كل منا فى محله كيفما كان، وبتنا ليلتنا الأولى بغير طعام، وقضيناها فى مساورة الهموم، وفى الحدس والتخمين بما ستؤول إليه حال البلاد، وقبيل طلوع الشمس كنا أمام المنافذ المطلة على البحر، وكان الأسطول يستعد للضرب، وفى الساعة السابعة أطلق الأسطول نيرانه على الطوابى فلم تجبه إلا بعد إطلاق عدة طلقات، ثم اشتبك الفريقان فى القتال، وتناثرت القنابل فى الجو، واشتد الترامى من الجانبين، ثم رأينا اللهب يرتفع فوق المدينة من جهات مختلفة، وانتشر بشكل مريع، وبعد ثلاث ساعات أخذت النار التى شبت فى الاستحكامات تتضاءل، حتى إذا جاء الظهر كان قد تم تدمير أغلبها».
يذكر «عرابى» فى مذكراته الصادرة عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة» أنه كان مع جميع النظار فى طابية «كوم الدماس» للإشراف على مواقع القتال، وأن البلاد صارت تحت الإدارة العرفية والأحكام العسكرية، ويؤكد أنه فى أثناء القتال تطوع كثير من الرجال والنساء فى خدمة المجاهدين ومساعدتهم فى تقديم الذخائر، وإعطائهم الماء، وحمل الجرحى منهم وتضميد جراحهم، ونقلهم إلى المستشفيات. ويذكر محمود فهمى باشا، مهندس الاستحكامات العسكرية، أحد قادة الثورة العرابية، فى كتابه «البحر الزاخر»: «رأيت فى ذلك الوقت بعينى ما حصل من غيرة الأهالى بجهة رأس التين وأم كبيية وطوابى باب العرب، وهمتهم فى مساعدة الطوبجية بجلبهم المهمات والذخائر وخراطيش البارود والمقذوفات، هم ونساؤهم وبناتهم، والبعض من الأهالى صار يعمر المدافع ويضربها على الأسطول».
ويؤكد «عرابى» أن مائة رجل استشهدوا فى ذلك اليوم من جميع الطوابى، وامرأتين من المتطوعات اللواتى كن يضمدن الجرحى، ويقول: «فى اليوم نفسه حضر محمود باشا سامى البارودى من القاهرة للاشتراك معنا فى الدفاع عن البلاد، وبعد الغروب توجهنا مع النظار «الوزراء» إلى سراى الرمل، وعرضنا على مسامع الخديو ودرويش باشا، المندوب العثمانى، ما حصل، وأن الاستحكامات تخربت، والمدافع تعطلت، فحصلت المداولة، وتقرر بأنه إذا عاودت المراكب الإنجليزية الضرب فى صباح 12 يوليو فلا تجاوبها القلاع بل ترفع الراية البيضاء»، فماذا حدث فى اليوم التالى؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة