ظهر مرض السرطان فى فم جمال الدين الأفغانى، فأمر السلطان العثمانى عبدالحميد، كبير جراحى القصر السلطانى «قمبو زاده إسكندر باشا» بإجراء جراحة عاجلة له، لكن الأفغانى مات بعد إجرائها بأيام قليلة، وينقل عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر إسماعيل» عن «دار المعارف - القاهرة» عن الأمير شكيب أرسلان فى كتابه «حاضر العالم الإسلامى»: «تقول الناس فى قصة هذا السرطان، وهذه العملية الجراحية لقرب هذا المرض بتغير «السلطان» على «السيد»، فقيل إن الجراحة لم تعمل على الوجه اللازم، ولم تلحق التطهيرات الواجبة بها، فمات المريض يوم 9 مارس «مثل هذا اليوم» عام 1897».
كان الأفغانى يقيم فى «الآستانة» عاصمة الدولة العثمانية منذ أواخر عام 1892، ووصلها قادما من لندن بإلحاح شديد من السلطان عبدالحميد، ويؤكد الدكتور حسن حنفى فى كتابه «جمال الدين الأفغانى - المئوية الأولى» عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة»: «ذهب إلى الآستانة وليس عليه إلا جبة واحدة، وكُتب فى رأسه لكثرة نفيه من مكان إلى مكان»، وشخصية يبدو من صفاتها وملامحها أنه «عربى، قمحى اللون، عظيم الرأس، عريض الجبهة، واسع العينين، عظيم الأحداق، ضخم الوجنة، رحب الصدر، جليل النظرة، مسترسل الشعر، ينجذب إليه كل من يراه بهذه الملامح الأخاذة حتى قبل أن يتكلم» ويصفه تلميذه محمد عبده كما يقول الرافعى: «عظيم الأمانة، سهل لمن لاينه، صعب على من خاشنه، طموح إلى مقصده السياسى، إذا لاحت له بارقة منه تعجل السير للوصول إليه، وكثيرا ما كان التعجل علة الحرمان، هو قليل الحرص على الدنيا، بعيد عن الغرور بزخارفها، ولع بعظائم الأمور، عزوف عن صغارها، شجاع، مقدام، لا يهاب الموت، كأنه لا يعرفه، إلا أنه حديد المزاج، وكثيرا ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة».
كانت محطته فى «الآستانة» ختاما لحياة التنقل والمنفى، التى بدأت منذ مولده فى قرية «سعد أباد» عام 1839، وانتقل مع أبيه إلى العاصمة الأفغانية «كابول» وحسب حنفى: «اعتنى به والده، وبرع فى علوم العربية والتاريخ والشريعة والتفسير والحديث وأصول الفقه والكلام والتصوف، كما برع فى بعض العلوم العقلية كالمنطق والسياسة والاقتصاد، والعلوم الرياضية مثل الحساب والجبر والهندسة والفلك، والطب والتشريح فجمع بين الحكمتين».
جاء من الهند إلى مصر عام 1870 «عهد الخديو إسماعيل»، وغادرها بعد أربعين يوما إلى الآستانة، ثم عاد إلى مصر عام 1871 على سبيل السياحة لكنه ظل فيها، ووفقاً لـ«الرافعى»: «أجرت له الحكومة راتبا ألف قرش كل شهر، وأخذ يبث تعاليمه فى نفوس تلاميذه فظهرت على يديه بيئة استضاءت بأنوار العلم والعرفان، وتحررت عقولها من قيود الجمود والأوهام»، وبعد عزل «إسماعيل» وتولى ابنه توفيق الحكم قبض عليه يوم 24 أغسطس 1879 أثناء عودته لبيته، وتم شحنه إلى السويس ومنها إلى الهند، وفى السويس قابله بعض تلاميذه وقنصل إيران وعرضوا المال عليه، لكنه رفض قائلاً: «أنتم إلى المال أحوج، والليث لا يعدم فريسة حيثما ذهب».
ظل فى الهند نحو ثلاث سنوات، ومنها إلى باريس، ثم استدعاه شاه الفرس «ناصر الدين»، واختلف معه، فسافر إلى لندن ومنها إلى الآستانة، وهناك حسب «الرافعى»: «أجرى عليه السلطان عبدالحميد راتبا وفيرا قيل إنه خمس وسبعون ليرة عثمانية فى الشهر، ومضت مدة وجمال الدين له عند السلطان منزلة عالية ثم ما لبث أن تنكر له، وأساء به الظن»، لأسباب منها كما يذكر الرافعى، استمراره فى الهجوم ضد شاه إيران «ناصر الدين» مما حمل سفير إيران إلى الشكوى منه لدى السلطان الذى طلب منه الكف عن ذلك، ولكن حدث أن قتل الشاه عام 1896 فاشتدت الريبة فيه بأنه المحرض على الجريمة، وأمر السلطان بتشديد الرقابة عليه ومنع الاختلاط به إلا بإرادة سلطانية، وقادت هذه الأحوال إلى تواتر الروايات بموته «شبه مقتول»، ويرجح الرافعى هذا الاعتقاد، مشيرا إلى أن الأمير «أرسلان» ذكر أن المستشرق «لاون استروروج» قال له، إنه كان صديقا للأفغانى وزاره بعد إجراء الجراحة له، وطلب منه أن يرسل إليه جراحا فرنسيا مستقل الفكر طاهر الذمة لينظر إلى العملية، فأرسل له الدكتور «لاردى» الذى وجد أن العلمية لم تجر على الوجه الصحيح، ولم تعقبها التطهيرات اللازمة، وأن المريض مات بسبب ذلك، ويضيف: «ما إن بلغ الحكومة العثمانية نعيه حتى أمرت بضبط أوراقه وكل ما كان باقيا عنده، وأمرت بدفنه من غير رعاية أو احتفال فى مقبرة المشايخ بالقرب من «نشان طاش»، فدفن كما يدفن أقل الناس شأنا فى تركيا، ولا يزال قبره هناك».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة