الأم هى أيقونة الحب الخالدة، وكينونة الجمال الإلهى، وترياق الحياة، وهى السيدة الأولى لأوطان قلوبنا؛ فقد سطَّرت بآلامها، وتضحياتها أكبر ملحمةٍ أسطوريةٍ فى تاريخ البشريَّة جمعاء؛ فقد أفنت زهرة شبابها –دون كللٍ أو مللٍ- فى سبيل إنماء زهور شبابنا، وإذكائها، وإيلائها حبًّا، وحنانًا، ورعايةً، واحتواءً حتى اشتدت أعوادنا الغضَّة، وقامت أصلابنا على جبال كتفَيْها الرواسخ؛ لذا فنحن لا نحتفى، ونحتفل بها يومًا فى العام فحسب؛ بل أن حقَّها علينا أن نحتفى ونحتفل بها فى كلِّ لحظةٍ تمرُّ علينا فى هذه الحياة التى كانت هى سببًا من أسباب الله فى إيجادنا على وجه بسيطتها.
وقد أوصانا ديننا الحنيف بالأم، فقايض حقوقها بواجباتٍ لها وعليها؛ فأمَّا ما لها فهو واجب أبنائها تجاهها؛ ذلك الواجب الذى يتحتَّم عليهم تأديته على الوجه الأمثل، والأكمل؛ وهذا ما يوضحه الحديث النبوى الشريف الذى ثبت فى الصحيحَيْن (البخارى ومسلم) عن أبى هريرة –رضى الله عنه- أن رجلًا جاء إلى رسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: يا رَسُول اللَّهِ من أحقّ الناس بحسن صحابتى؟ قال: (أمك) قال: ثم من قال: (أمك) قال: ثم من قال: (أمك) قال: ثم من قال: (أبوك) مُتَّفَقٌ عَلَيْه، وأمَّا ما عليها فهو واجبها نحو أبنائها؛ فالمرأة المسلمة الواعية تدرك مسؤوليتها فى تربية أولادها، وتنشئتهم تنشئة سويَّة سليمة، ولعلَّ هذا ما يظهر جليًّا متمثِّلًا فى أبنائها؛ فإنَّك لا تكاد تجد عظيمًا من عظماء أمتنا إلا وهو مدينٌ بالفضل إلى أمه العظيمة؛ فهذا الزبير بن العوام يدين بفضل أمه صفية بنت عبد المطلب عليه، وكذا عبد الله والمنذر وعروة أبناء الزبير الذين يدينون بالفضل لأمهم أسماء بنت أبى بكر (رضى الله عن الجميع)، وكلُّ واحدٍ منهم له مقامه المحمود.
وهذا على بن أبى طالب -رضى الله عنه- الذى لُقِّنَ الحكمة ومكارم الأخلاق من صدر أمه فاطمة بنت أسد، وهذا عمر بن عبد العزيز -رضى الله عنه- خامس الخلفاء الراشدين وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب التى كانت أكرم أهل زمانها كمالًا، وأمها المرأة العابدة التقيَّة التى اتخذها عمر زوجةً لابنه عاصم؛ إذ رأى فيها الصدق والأمانة مجسَّدَيْن، يوم لم ترضَ أن تخلط اللبن بالماء كما طلبت منها أمها؛ خوفًا من الله.
وتظل الأم –إذن- هى مرفأ الأمان والحنان لنوبات المدِّ والجزر فى حياة الإنسان، وكيف لا، وتحت قدمَيْها جنان الرحمن؟!.. فكم احترقت لتضىء لنا ولو قبس يسير من النور لنهتدى به فى ليالى قلوبنا المدلهمة، وكم حملت همومنا فكانت كشجرةٍ طيبةٍ مثمرةٍ على جبلٍ أشم.. أصلها ثابتٌ وفرعها فى السماء ؛ لتنال -هى والأب العظيم- تشريفًا وتكريمًا من المولى -عزَّ وجل- فى كتابه العزيز حين يقول: "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أن اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إلى الْمَصِيرُ" (لقمان، 14) ؛ فلمَّا أمر الله بالقيام بحقِّه، بترك الشرك الذى من لوازمه القيام بالتوحيد، أمر بالقيام بحق الوالدين فقال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ)؛ أى: عهدنا إليه، وجعلناه وصيةً عنده، سنسأله عن القيام بها، وهل حفظها أم لا؟
فوصيناه بِوَالِدَيْهِ، وقلنا له: اشْكُرْ لِى بالقيام بعبوديتى، وأداء حقوقى، وألا تستعين بنعمى على معصيتى وَلِوَالِدَيْكَ بالإحسان إليهما بالقول الليِّن، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما، وإكرامهما وإجلالهما والقيام بمؤونتهما، واجتناب الإساءة إليهما على أى وجهٍ من الوجوه سواءً كان ذلك بالقول أو بالفعل، وقد اضطلعت الأم بحمل جنينها "وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ" أى حملته فى بطنها وهى تزداد كل يوم ضعفًا على ضعفها، وقيل: المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل.
ولمَّا اختصَّ –سبحانه وتعالى- الأم بدرجة ذكر الحمل، وبدرجة ذكر الرضاع حصل لها بذلك ثلاث مراتب، وللأب واحدة؛ فجعل له الربع من البرِّ كما فى الحديث النبوى الشريف سالف الذكر، وقد وصيناه بهذه الوصية، وأخبرناه –أى الله سبحانه وتعالى- أن إِلَيَّنا الْمَصِيرُ؛ أى: سترجع أيها الإنسان إلى من وصَّاك، وكلفك بهذه الحقوق، فيسألك: هل قمت بها، فيثيبك الثواب الجزيل؟ أم ضيعتها، فيعاقبك العقاب الوبيل؟.. فهلَّا أعددت إجابتك.؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة