تقول الحكمة الشعبية «بيت المهمل يخرب قبل بيت الظالم»، ويظن كثيرون أن فشل المسؤولين يتسبب فى إهدار الميزانيات فيما لا يعود بالنفع على المؤسسات، لكن الفشل له ألف صورة وصورة، كما أن للفاشلين وجوهًا عديدة، فى مقدمتها وجه الإهمال الذى يتسبب فى إهدار مقومات الثقافة والإبداع المصريين.
ومع تقديرنا العلمى والشخصى لكثير من العاملين بالهيئة المصرية العامة للكتاب، وعلى رأسهم الدكتور هيثم الحاج على، لكن هذا التقدير لا يمنعنا أن ننتقد الوضع السئ آملين التعديل والتصويب والتصحيح، والمسألة حتمًا ليست شخصية ولا تخص إصدار بعينه، وإنما نستهدف من الكتابة هنا، السعى نحو منظومة ثقافة أفضل، وعلاج الخلل الذى تعانيه الهيئة فى إداراتها وقطاعاتها، وعلى رأسها قطاعا النشر والتوزيع. ونبدأ بالأخير الذى يعانى خللًا كبيرًا وعدم وجود رؤية لدى مسئوليه، منوهين إلى أننا سنعود فى مرات لاحقة إلى قطاع النشر الذى يعانى "الأمرين" فى العامين الأخيرين تحديدًا، ومؤكدين على أننا إذ نكتب عن عورات الماكينة بالهيئة، فإننا ننتظر قرارات إصلاحية من رئيس الهيئة الذى نعرف حجم معاناته وما يلاقيه تجاه أى تطوير.
فى الهيئة المصرية العامة للكتاب، نتلمس وجود كثيرين من الفشلة والمهملين الذين يتسببون فى ضياع الثقافة المصرية والإنتاج الفكرى، و«تشوينه» فى حزم «متكتفة» بالمخازن. وهو الحال الذى تشهده مخازن الهيئة الموقرة، والمكدسة بآلاف النسخ من العناوين الحديثة، التى لم تعرف للتوزيع سبيلًا رغم مرور أكثر من شهرين على صدورها وثلاثة أشهر على بعضها.
نبدأ الحكاية من أولها، لماذا يفضل بعض الكتاب طباعة أعمالهم فى هيئة حكومية لا يتحصلون من ورائها سوى على 15% من سعر الغلاف، المطروح أصلاً بأسعار زهيدة؟ السؤال السابق طرحناه على أنفسنا أولأ وعلى كثيرين من الكتاب الذين تعاملوا مع هيئة الكتاب مؤخرًا، والإجابة التى نعتقد فيها تتمحور حول أهمية التوزيع الممتد عبر شبكة من منافذ البيع بالقاهرة والمحافظات المختلفة، ما يصب فى النهاية فى انتشار الثقافة.
إذن فضلنا انتشار الثقافة ورواج الكتاب والإبداع للجماهير، بأسعار فى متناول أيدى الناس، لكن الوقائع والحقائق تشير إلى ضياع الهدف وخيبة المسعى، والسبب هيئة الكتاب وقياداتها، وسياسات التوزيع للإصدارات.
فى مطلع يناير الماضى، أصدرت الهيئة بعض العناوين الحديثة، منها «أوراق العشب» التى تضم الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر والت ويتمان، بترجمة الشاعر والمترجم رفعت سلام، ورواية «مجاز العشق» للروائى السورى نبيل سليمان، والأعمال الكاملة للشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودى، ورواية «أيامنا الحلوة» ضمن سلسلة الجوائز، وكتابنا «السلطة والمصلحة»، وغيرها، ومع ذلك لو بحثت عن هذه العنواين فى منافذ الهيئة لن تجدها.
حملنا سؤالنا وحملتنا ساقنا، إلى المقر الأشهر لبيع إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب، المعروف بالمركز الدولى للكتاب بشارع 26 يوليو، تفحصنا العناوين على رف «الإصدارات الحديثة»، نصفها تقريبا صدر قبل عام على الأقل!! فتشنا عن مبتغانا فلم نجده. سألنا موظفى الفرع، أكدوا عدم حضور النسخ حتى الآن، ستصاب كقارئ بالصاعقة، إنها عناوين صدرت فى ديسمبر ومطلع يناير، ونحن أول مارس، من المؤكد ثمة خلل بالأمر.
النتيجة، لا شىء أتى من الهيئة، ما زالت الكتب فى «لفتها» بالمخازن، فتشنا عنها بالفروع كافة، لم نعثر عليها، السؤال هنا، النسخ التى لم تصل لمنافذ القاهرة، رغم مرور فترة بين شهرين وثلاثة على إصدارها، متى ستصل إلى الأقاليم؟!
لنا أن نتخيل مثلا، لو أن دار نشر خاصة طبعت أعمال "والت ويتمان"، وطرحتها بسعر يفوق سعر الهيئة، لكانت الطبعة الثانية مطروحة بالأسواق الآن، فقط لأن المال له أصحاب يراقبونه، بينما مال الشعب أداة حمايته ليست دقيقة، فى ظل روتين عقيم وأفراد غير مؤهلين يقومون على إدارته.
والإصدارات ذاتها، غابت عن معرض الرباط للكتاب المنتهى منذ أيام، ولم تفكر الهيئة فى ترويج كتابات مبدع كبير كالأبنودى ولا الاهتمام بمشروع رفعت السلام فى نقل الشعرية الغربية، ولا العمل على توصيل الإبداع العربي والغربى المترجم للقارئ، "يعنى هى الدنيا طارت"، والسبب ربما يكمن فى عدم تقدير الهيئة لطبيعة دورها!!
نعترف أن المصادفة وحدها هى التى قادتنا لاكتشاف المصائب التى تغرق فيها عملية التوزيع، وبدأنا نتفحص المشكلة وتاريخها، لنكتشف أن القضية ليست وليدة اللحظة، لكنّه النهج فى العامين الأخيرين تحديدًا، ويمكن أن نُذكّر بما تناولته الصحف والمواقع الإخبارية فى أغسطس الماضى، حين فتشت عن الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الفرنسى الأشهر شارل بودلير، ترجمة الشاعر والمترجم رفعت سلام أيضًا، التى أعلنت الهيئة عن صدورها فى أبريل الماضى، أى بعد مرور أربعة أشهر، ولم تتوفر فى أى منفذ، رغم طرحها فى معرض فيصل الذى تقيمه هيئة الكتاب فى شهر رمضان من كل عام.
فى منتصف يوليو، أعلنت الهيئة فى بيان إعلامى، صدور المجلد الأول من سلسلة "تراث الإنسانية"، المكوّنة من 6 مجلدات"، لكن لو كنت «جدع» اعثر عليه! الأمر تكرر مع كتاب «بيت حافل بالمجانين» للمترجم أحمد شافعى، الذى انتظر 7 أشهر من تاريخ صدوره فى يناير 2016 حتى يصل لمنافذ الهيئة، التى لا تبعد عن مقر المطبعة 15 دقيقة سيرًا على الأقدام!
منذ سبعة أشهر تقريبًا، صرح الدكتور هيثم الحاج على، رئيس الهيئة، بأن «المسئول عن طرح الكتاب إدارة التوزيع، من خلالها يتم تزويد المنافذ بالكتب، من الممكن أن المنافذ القريبة تنفد منها الكتب بشكل سريع، وتضطر إلى انتظار موعد الطرح التالى، حسب الخطة المقررة من الإدارة المسؤولة»، سبحانه، الكتب تنفد قبل أن تصل الفروع أصلًا!
ليس هذا فحسب، بل يصل الأمر إلى عدم توفر الكتب خلال حفلات التوقيع التى يعقدها المركز الدولى للكتاب لإصدارات الهيئة، ونذكر منها حفل توقيع كتاب «الخطاب الشعرى لنجيب سرور» للباحث والروائى أحمد إبراهيم الشريف، الذى فوجئ خلال حفل توقيعه بالمركز، أغسطس الماضى، بعدم وجود أى نسخة من كتابه الصادر فى يناير 2016، وحين سأل موظفى الفرع، أكدوا أنهم خاطبوا إدارة التوزيع منذ 50 يومًا ولم تصلهم نسخ من الكتاب.
واستطرد الحاج على: «نعمل الآن على تعديل خطة التوزيع»، الآن؟ منذ سبعة أشهر والأوامر لم تصدر للإدارة المعنية، لتزويد الفروع بالعناوين الحديثة، فى دورة لا تزيد على أسبوعين، ناهيك عن تفعيل إمكانية التزويد بالطلب، أى أن يطلب موظفو فرع معين عناوين محددة، فتلبى الإدارة على الفور.
لا الهيئة ولا إدارة توزيعها ولا قياداتها، يبدو أنهم مشغلون بالمبيعات، ولا حتى يشعرون بالقلق على حق القارئ فى المعرفة، ولا يأسون لضياع جهود المؤلفين والمترجمين، فالمسألة مجرد «وظيفة ميرى» والورق «متستف» والدنيا «آشية ومعدن». لكن لو قارنت وضع التوزيع فى هيئة الكتاب، المعنية فى المقام الأول بالنشر، بوضعه فى هيئة قصور الثقافة، التى يعتبر نشر الإبداع دورًا ثانويًا من أدوارها، فستعرف أن الأمر لا يحتاج لعبقرية، وإنما للتخصص. إذ لجأت الثقافة الجماهيرية إلى موزع محترف، مؤسسة أخبار اليوم، واتفقت على خطة توزيع تضمن وصول 40% من النسخ لمحافظات الوجه البحرى، ومثيلتها للوجه القبلى، والبقية بالقاهرة الكبرى. والنتيجة نفاد أغلب الطبعات فى غضون 6 أشهر على الأكثر، وعناوين كثيرة تنفد طبعتها فى أسابيع التوزيع المقررة.
فى الثقافة الجماهيرية، أعطوا العيش لخبازه، بينما أوُكلت مهمة التوزيع فى هيئة الكتاب إلى هواة و"صبيان" ما زالوا فى بداية الطريق، وبدلًا من الاستعانة بـ«الأسطوات»، تُرك نتاج الثقافة المصرية لـ"بلية"، الذى لا يهتم بأموال المصريين ولا عقولهم، الأمر ليس أكثر من وظيفية روتينية، تستلزم أولًا وأخيرًا التوقيع فى دفاتر الحضور والانصراف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة