قررت أن أرتاح من متاعب الحياة قليلاً فأخذنى القدر إلى مكان بعيد، قرية سياحية جديدة تبعد عن القاهرة خمس ساعات بالسيارة، محاولاً التغلب على ملل الطريق وطوله أخذت أقلب فى محطات الراديو فربما أجد ما يشغلنى عن هذا الملل. توقف الراديو فى النهاية عند أغنية قديمة لموسيقار الأجيال "يا مسافر وحدك" فقررت الإبقاء على هذه المحطة فما أمسنا حاجتنا فى هذه الأيام إلى قليل من الفن الجميل.
وبعد معاناة القيادة وبقائى أمام مقود السيارة لساعات قابلت فيها كافة أنواع المركبات، فالطرق هنا فى مصر يسير عليها كل شيء بدءاً من التوكتوك وحتى ناقلات النفط العملاقة، رأيت أخيراً ابتسامة "سكيورتى" القرية السياحية مرحباً بوصولى وبالتأكيد من ورائها رغبة ملحة فى تفتيش شنطة السيارة التى لازالت فارغة كحال معدتى أيضاً خلال هذه الرحلة اللطيفة. أنهيت إجراءات حجز الغرفة المعتادة وسط ابتسامة من موظفة "رسيبشن" جميلة تختلف تماماً عن تلك التى أراها على وجه مديرتى فى العمل كل الصباح، وربما أدركت فى هذه اللحظة لماذا يشترط أن تكون موظفة الاستقبال أو السكرتيرة أو مضيفة الطائرة على هذا القدر من الجمال.
صعدت للغرفة وفوراً طلبت وجبة الغداء التى ربما تحولت مع دخول الليل إلى وجبة عشاء، محاولاً مقاومة النعاس الشديد أخذت أقلب فى "بروشور" أقحمته إدارة الفندق عنوة مع وجبة الطعام. رحلة مجانية سوف تبدأ فى الصباح الباكر يزعمون أننا سنذهب إلى "شاطئ الأحلام" وقبل أن أكمل القراءة غرقت بلا إرادة فى بحر النوم العميق.
فى الصباح، استيقظت على صوت أحد عمال الغرف يطرق على باب الغرفة ويذكرنى بقرب تحرك أتوبيس الفندق نحو الشاطئ المزعوم. سريعاً تناولت إفطارى على استحياء وفنجان من القهوة احتاجه بشدة لظبط مزاجى خلال هذه الرحلة المجهولة. وصلت أخيراً لباب فندق القرية وإذا بأتوبيس صغير الحجم "مينى باص" شبه فارغ لا يتواجد به سوى زوجين استنتجت من سعادتهما "الغير مبررة" أنهما بشهر العسل، فتاة فى منتصف العشرينات أدركت من "id" أنها مرشدة الرحلة ويرافقها طفل صغير ابناً لأحد العاملين بالفندق وأخيراً سائق الأتوبيس. كعادتى جلست وحيداً فى الكراسى الخلفية استمع دون اهتمام ربما لما تقوله المرشدة السياحية عن طبيعة الرحلة ومدتها وما سيحدث فى السويعات القليلة المقبلة.
ساعة ونصف تقريباً حتى وصلنا إلى المكان المقصود وطيلة هذا الوقت لم تتوقف الفتاة "المرشدة السياحية" عن الكلام مطلقاً، طبيعى فالصمت لغة لا تعرفها النساء. نزل الجميع من الأتوبيس وأسرعت الفتاة لإنهاء إجراءات دخولنا إلى الشاطئ والذى بدا غريباً لى منذ النظرة الأولى، فهو محاط بسياج مرتفع من كافة الاتجاهات يحجب الرؤية كلياً ويجعلك تتساءل عما يتواجد بداخله؟ تأخرت الفتاة وعادت وعلى وجهها غضباً كأنها عادت للتو من مشاجرة وبالفعل أخذت أنفاسها ثم صرحت بأن قوانين الشاطئ قد تغيرت وأنه لا يسمح اليوم سوى بدخول فرد واحد فقط ويجب علينا الاتفاق على هذا الشخص الآن. هنا تحولت فرحة زوجى "شهر العسل" إلى نكد مفاجئ فبالقطع لا توجد امرأة على وجه الأرض تثق فى زوجها إذا تحرك خطوتين أو ربما خطوة واحدة بعيداً عنها. نظر إلى الاثنان وكأنهما يمنحانى تفويض مباشر للدخول إلى الشاطئ بدلاً منهما، وبالفعل أسرعت الفتاة باستخراج تذكرة دخول "للعبد لله" وقبل أن أبادر بدخول الشاطئ المجهول أخرج كل من كان بالرحلة ورقة قيل أنهم كتبوا بها أمنيات وأحلام كانوا يرغبون فى إلقائها فى مياه الشاطئ فهى عادة قديمة يظن البعض أو ربما الجميع هنا أنها قد تكون سبباً فى تحقيق بعض من تلك الأحلام.
دخلت الشاطئ أخيراً، وجدته عادياً لا شيء مميز سوى مكان مرتفع قليلاً عن سطح البحر يبدو أنه المكان الذى يتم منه إلقاء أوراق الأحلام تلك إلى البحر الشاسع. وصلت للتبة المرتفعة ووجدت عليها "يافطة" صغيرة، تعليمات من إدارة الشاطئ تشترط فيها أنه مسموح لك بحلم واحد فقط. اللعنة، ماذا أفعل فى موقف كهذا ومعى ما يقرب من 4 أوراق تمثل أحلام كل من فى أتوبيس الرحلة؟ دفعنى الفضول لقراءة الأوراق حتى أحدد من صاحب الحلم الأهم أو بالأحرى من يستحق منهم أن يتحقق حلمه. بدأت بورقة سائق الأتوبيس يحلم الرجل بترقية يصطحبها بالتأكيد زيادة فى الراتب، الفتاة "مرشدة الرحلة" أصابنى خطابها بحالة من التوهان من سطر لآخر وجملة لجملة وأدركت فى النهاية شيء واحد فقط تبحث الشابة عن ابن الحلال. الزوجان كان حلمهم واضح ومباشر يرغبان فى إنجاب مولود سعيد سريعاً، لا أعرف سبب العجلة فى ذلك! تبقى الطفل الصغير، فتحت ورقته محاولاً تجميع الحروف المتشابكة والمتناثرة فى كل مكان مكتوب "شوكو" .. "شكوكلا" فهمت يحلم الصغير بالكثير من الشيكولاتة، آه يا قلبى كم هى جميلة براءة الأطفال .
أصبحت فى موقف لا أحسد عليه فأى حلم أختار ولماذا؟ كلها أحلام مشروعة، بعد تفكير عميق بادرت فى رأسى فكرة . رأيت بجوارى منضدة بها قلم وأوراق كثيرة فارغة يبدو أنها خصصت لمن يريد أن يكتب حلمه هنا قبل أن يلقى به فى الماء ! سحبت القلم وورقة بيضاء وكتبت جملة واحدة "يارب حقق أحلامهم جميعاً". ألقيت بالورقة نحو البحر فحملتها الريح بعيداً حتى استقرت على سطح الماء وتوارت بعيداً، وقتها خبأت أوراق "أحلام" الجميع فى جيبى وعدت مباشرة إلى الأتوبيس. قابلتنى أعينهم بشغف مليء بالأسئلة عما حدث فطمأنتهم أن "كله تمام"، وبدأ الأتوبيس فى التحرك للعودة ربما لعدم جدوى تواجدنا لوقت أكثر أو لقرب موعد الغداء بالفندق لا أدرى، وفى طريق العودة حدثت المعجزة التى لم أتوقعها.
رسالة نصية وردت عبر الهاتف لعم "محسن" سائق الأتوبيس تبشره بترقية بالإضافة لزيادة المرتب بداية من الشهر القادم، حمد الرجل الله كثيراً وفاض فى الحديث عن اجتهاده وعمله الدءوب. فتاة الإرشاد السياحى كانت تتابع بشغف بعض رسائل "الواتس آب" وتغيرت أيضاً ملامحها لحالة من الراحة والنشوة غير المبررة، دفعنى الفضول لسؤالها "أخبار حلوة" أجابت "نعم" فأخيراً حدد والدها موعداً للقاء فارس أحلامها المنتظر وأسرته. أقترب الأوتوبيس على الوصول للفندق ولا زال موقف الزوجان غامضاً، حتى رن هاتف الزوج وبينما كان يتحدث بصوت منخفض سكت فجأة وامتلأت عيناه بالدموع. هنا توقف قلبى ربما لفترة حتى تنفست الصعداء فور معرفتى بأن المتصل كان طبيباً يبشره بحمل المدام، وصعقت ثانية حين علمت أن الزوجان ليسوا بشهر العسل وإنما يحتفلان بمرور 7 سنوات زواج كانا ينتظران فى كل يوم منها لسماع خبر كهذا. توقف الأتوبيس أخيراً وكان الطفل الصغير يتلهف للنزول سريعاً، ألقيت نظرة من الشباك فعرفت السبب، سيارة كبيرة من أشهر محلات الحلويات تفرغ كم هائل من علب الشيكولاتة، ويافطة علقت على مدخل الفندق احتفالاً بمرور 10 سنوات على إنشاؤه.
بين حالة من الدهشة وعدم التصديق لكل ما حدث خلال اليوم! صعدت مباشرة لغرفتى منتظراً وجبة الغداء التى تأخرت لساعتين جابت خلالهما برأسى شلالات من الأفكار. لماذا لم أفكر بحلمى أنا؟ لماذا لا أملك حلماً كباقى البشر؟ ولو كان! هل ما كنت سأحلم به عبر تلك الورقة كان سيتحقق أيضاً؟ تباً جئت إلى هنا لأستريح وها قد زادت همومى أكثر مما تمنيت، ياربى كم أسألك ولو يوماً أنسى فيه كل شئ. قاطعنى صوت طرق الباب كان ذلك عامل الغرف يحمل صينية الغداء، رأيت فيها منشور جديد اعتلته عبارة بالخط العريض إدارة الفندق تعلن عن رحلة غداً إلى "شاطئ النسيان".