"باب مَنْ أحبّ فى يوم الأحد" قصة لـ أريج جمال

الخميس، 16 فبراير 2017 09:00 م
"باب مَنْ أحبّ فى يوم الأحد" قصة لـ أريج جمال غلاف المجموعة القصصية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أكتبُ "أفتقِدُك جدًا"، فتُجيبنى الدائرةُ التى تَحِملُ صورتَه ثلاثَ مرات "وصلتُ حالًا"، أراه تمثالًا بقى على وضع صانعِه، لا يُجيد أن يُغيِّرَ مقامَه، أرتبِكُ قبْلَ أن أسحبَ الدائرةَ إلى علامةِ الرفض، وأتخلَّصُ مِنها، أفردُ جسدى على الفِراش وأتركُ نفْسى للسقوطِ فى هذَيانِ ما قبْلَ النوم.

الشبَكَةُ تَضعُ علامةَ التعجُبِ فوقَها، انقَطعَ الإرسالُ بيننا بغتة، قبْلَ اللحظةِ الأخيرة، الآنَ هو مجرد لا شيء، وأنا أيضًا. ربما لا يكون هُنَا. لا دليلًا واحدا على حضورِنا، نحتاج إلى مَركبةٍ فضائية تتلصَّصُ على أوضاعِنا مِن خارج الأرض، كى نُصدِّق أنّا كُنّا هُنَا. ينبغى أن أهدأَ لأنى الآنَ أكتبُ، وهذا دليلٌ قاطع على وجودي. فى السادسة صباحًا، أعودُ على الفِراش، وأرتبكُ حين أجد أكثرَ مِن ستةِ اتصالاتٍ ورسالتين، "أنا آسِف فسدت الشبَكَة فجأة". "أنا أيضًا أفتقِدُك، ربما تكونين نائمة، أحبكِ".

أكاتِبُه "لماذا لا نرقص الفالس معًا؟"، فيُجيب "تعالَى إلى بيتِنا"، أذهبُ إلى الدائرةِ الخرساء، وأحاول تقبيلَ التمثالَ على عينِه، "لم أعُدْ أحتمِل"، "ولا أنا"، "أحتاجُ إلى معانقةٍ طويلةٍ ومُلهمِة كى أعودَ للكتابة"، "أنتَ تكتبُ فعلًا، أنت تكتبني". فى زمنٍ لاحقٍ وأنا أحذفُ المحادثاتِ القديمةَ بيننا، على أن أنتبِهَ تمامًا لابتذالِ المغازلاتِ وركاكتِها، لن أكتبَ حوارا كهذا فى رواية لى أبدًا. "أريدك كُلك، لم أعدْ أحتمل"، "وأنا أحبكِ جدًا"، تَسلَّلَ السأمُ بيننا والشبَكَة تواصِلُ انقطاعاتِها عدةَ مرّات، علقت كلمات حميمة كثيرة دون إرسال "أريدك بشدة، افعلْ شيئًا ما"، "وأنا أيضًا أُحبك".

كانت الشبَكَةُ لديه رديئةً فعلًا، أحيانًا أفكرُ أنها كانت تشرب كثيرًا، مثلَه، وتفقدُ الوعي، "متى نلتقي؟"، "حبيبتى أنا سهران اليوم، سنتكلم غدًا"، أهذى مجددًا، وأصحو على رسالةِ اعتذارٍ وأكتبُ "صوتك كان ميتًا بالأمس"؛ فيُجيبنى "أحبكِ جدًا". "كنتَ مع امرأةٍ أخرى!" أقذفُ الهاتفَ إلى بعيد، وأدخلُ فى نوبةِ حُمّى طويلة، وحدى على الفِراش أتمنَّى أن يُبعثَ مِن الدائرةِ ويُخلِّصني. "كنتُ مخمورًا بالأمس، أنا آسف". "لم أعدْ أريدك". "أنا أحبكِ جدًا".

فى الأول، يقول الجميعُ "نتشابه"، وتُثبِتُ تفضيلاتُنا الموسيقيةُ أننا نِصفانِ شاردانِ التقَيَا أخيرًا، ونتغازل، وأغازل، إلى أن نصِل "أحبك جدًا"، بعدَ ليلةٍ أو ليلتيْن، تَحمَرّ أُذُنى كثيرًا قبْلَ النوم، وأضطرُّ للاحتيالِ على جسدى كى يسكتَ وأنام، كل الغراماتِ الماضيّةِ كَذِبٌ ومَضى، هذا غرامُ العُمر، الارتجافات المُتـتالية تجعلنى أوقِن، و"أحبك جدًا"، و"أنا أموت فيك، وأموت عندك"، و"أنا أموت كى أصل إليك". أقرأُ روايةً واحدةً تتكرر، ألامِسُ الشخوصَ وأبكي، ثم أُسلِّم أنَّا افترَقنَا، أراقِبُ ذبذبات الهاتف، أستجدى الدائرةَ، لا تُجيب ولا تفسد الشبكة.

على الحائطِ أكتبُ "نحن جُزرٌ منعزلة، نملكُ أجهزةَ إرسال، لكننا لا نملك أى أجهزةِ استقبال"، يُعجَب بالمنشور وتصيح الدائرة "أحبكِ جدًا"، "أرجوك، أنا هشّةٌ أمامَ الحُمّى، ابتعِدْ واعتقْني"، لا شيءَ اسمُه الحُب، جسدى يرغب ويُعبِّر عن رغبتِه لا شيءَ حقيقي، فى المساءِ ألتقى ناشرةَ كُتُبٍ تترك لى علامةً قبْلَ أن تودِّعَنى "لا تُضيِّعى وقتَكِ فى أشياءَ لا تُفيد"، وأقول "أنا أفعلُ هذا"، أشرح بلسانى كيف انقطعتُ عن العالَم، كيف أصير راهبةً للكتابة، أُحاول تصديقَ أن هذا الشيءَ الحقيقى الباقي، أنا أكذب.

أحدُهم هَرَب حين رأى صورتي، ذهَبَ ليأكلَ ويشرب كولا، تصوّرَ أنى أشبِهُ الموديلات العاريّةَ التى ينشر صورها، أجساد مرسومة بالريشة، بينما أنا جسدى ممتلئٌ بانتظار أشياءَ كثيرةٍ لا تتحقق. أزَلتُ حضورَه مِن صفحتي، بعدَ يومين عادَ وقال لى "خُنتيني"، لم يقُلْ "أفتقِدُك"، أو "أنا أحبكِ جدًا"، لم يقُلْ مثلَه، أمَّا هو فيُحبنى لكنه لا يُجيد الكلام. ينبغى أن يكونَ هو الأصدق بينهم. "أرجوكِ، أنا أحبكِ جدًا"، لا أستطيعُ أن أتعايشَ مع غيبوبتِه، والغيبوبةُ تُرضيه، نكثتُ بوعدي، لن أحتمِلَ نوبةَ غيبوبةٍ أخرى، الحُب كذِب، بحلول يوم الأحد القادم سأكون على ما يُرام، سأكونُ قد نسيتُ كلَّ شيء، باستثناء كتابى الجديد، أعودُ فأتصفحُ صورَه، أحاول أن أُديرَ محاورةً مُتخيَّلةً معه بالإنجليزية، تَحمَرّ أُذُناى بشدّة، وأسعلُ ولا أجد مَنْ يُطفِئُني، ألمسُ بإبهامى سترتَه وأحِس بالحُمّى تتحركُ مِن معدتى إلى فوق، أَسقطُ فوق الفِراش وأناجيه "أرجوك، لا تذهبْ مثلَهم، أرجوك"، بالطبع لن يَسمعُني.

مِن قبْل خطوتُ إلى اللحظة نفسِها، غرام العُمر، كل الغراماتِ السابقة كذب، مَنْ يُخبرنى أن هذا غرامٌ؟ تزول الحُمَّى تدريجيًا، أبدأُ فى الكتابة على الحائط مرةً أخرى "اللهُ يحبني، ويعرف كيف يرسل إلى القُبَل"، يُعجَب بالمنشور، وتُعلِّق زميلةٌ قديمة فأحذِفُ تعليقَها ثم أُزيلُ حضورَها، وتَظهر الدائرةُ مرةً أخرى "أنا أفتقِدُك جدًا"، "أنا أريدكِ"، "أنت مجرد دائرة فى وهمي، تعالَ وأخبِرْنى أنك تُحبني"، "سأفعل، فقط عودى إلى بيتِنا"، أحمِلُ انتظارى القديمَ وأعود، هذا ليس غرامًا، أحتاجُ لمنْ يُخلصِّني، لو أن اللهَ يُحبكِ ويُرسل القُبَلَ إليكِ فلماذا تتيهين؟

"نشعرُ بالوحدةِ غامرةً، ولهذا فقط نَقَعُ فى الحُب"، لماذا خَلَقَنا الله؟ كى يُعذبَنا، وأصرخ له فى التليفون قبْلَ أن تَسقطَ الشبَكَة فاقدةَ الوعى "أنا أريدك، جسدى يُريدك"، "خُذينى بالخيال"، "أريدْ أن ألمس كفّك، أن أُقبّلَه"، "أنا أُرضى جسدى بيدي، جرّبى الأمر"، "أنا لا أريدك"، تُخبرنى الشاشةُ أن المكالمةَ انتهت، وأنا أتحسبُ مِن الظهور فى نوبة حُمّى جديدة. أقولُ كلَّ الأشياءِ التى أخجلُ مِن سماعِها بلُغةٍ أخرى، لا أتلعثَمُ ولا أخاف، لم أجِدْ نفْسى فى الحُب، حاولتُ، ولا مرة وجدت. ثمانية أعوامٍ مع رَجُلٍ افتراضى فى الواقع، لا يكذبُ حتى على، يموتُ أكثر مِن مرة، فأتعلَّق بجيبِ جُثتِه، تَجحظُ عيناه ولا أشعرُ بالرُعب، والآن ماذا هو الحُب؟

فيما بعدُ وأنا أراه يَكتب "هو العام الذى وجدتُ فيه حُب عُمري"، أنزعِجُ وأكتبُ على الحائط "شكرًا لأنك غادرتَ حياتى، كان عامًا جميلًا بدونك"، كنتُ أحدّثُ رَجُلَ الثمانيةِ أعوام، وأجفلُ لأنه ليس هُنَا، ولن تَجمَع بيننا دائرةٌ واحدة، تُعجَبُ كاتبتى المُفضَّلةُ بالمنشور فأقول هذا طريقُ الكتابة، اللهُ لم يَزل يُرسلُ إلى القُبَلَ ويسامحني، يا الله، كلُّ شيءٍ كان يمكن أن يرى خلاصًا، لو أنك تتجسد، تتجسد وتتصل بي، أو أن أكونَ مثلَك، كيانًا فوق الكيانات، فلماذا تتركنى هنا؟

"المَركبةُ الفضائية غادرتْ مُبكرًا، لقد وصلت الشكوكُ مَدى وجودِها"، ويكتبُ لى "أرجوكِ، عودي"، وأنا أعودُ بهوسى القديمِ واحتمالات تجددِ نوباتِ الحُمَّى نفسِها، تُهدينى صديقتى ساعةً كاملةً مِن موسيقى الفالس، وأسأله "ألا نلتقي؟"، ويقول "الأحد الأول مِن الشهر"، أسكتُ ولا أكتب "شهورك لا تأتي، وأنا يمضغنى شكٌّ أنك لستَ هنا" لستَ هنا أبدًا" فى الدائرةِ نفسِها أدور، أدورُ باستمرار، لا أريد أن أَسقطَ فى الحُمَّى مُجددًا، أتكلم خوفًا مِن فقدان النطق" لا أريدُ أن أستمر"، "لا أفهم"، "لا أشعر بالأمان"، "كما تُحبين، هذه المرة لن أستجديَك"، "أنتَ لا تعرف شيئًا عن الاستجداء"، "وأنتِ تعرفين؟"، "أنتَ لا تعرف شيئًا عن الحُب"، "ولا أنتِ تعرفين"، فى المنامِ أَسمَعُنا نُحدِّدُ موعدًا للقاء، نريد أن نؤمِنَ على الأقل بوجودنا ثم نفترق، ينبغى أن يكونَ قَدْ وَقَع الحُبُّ حتى ننساه، أكتبُ ما سمعته بالحرف.

 نلتقى فى مقهى مُغلقٍ فى شارع شريف، يكون اليوم يوم أحد، أفهمُ هذا مِن زحام الشوارع غيرِ المحتمَل، مِن رثاثةِ ثيابِنا بسبب الغبارِ الكثيف، يَعزفون شيئًا يشبِهُ الفالس لكن ليس هو، أحاولُ لمسَ يديه، فلا أصِلُ إليهما، أَنظرُ فى عينيه ولا أرى أى شيء، أفهَمُ أننا لسْنَا هُنَا فعلًا، نتكاتبُ بالرسائلِ القصيرة، ونحن جلوسٌ بالقُرب، "أحتاجُ أن تمنحَنى دَمَك"، "أنا أُحبكِ جدًا"، "أحتاجُ دَمَك بسرعة"، "لماذا؟"، "لا أعرف، لكن أرجوك، امنحَنى دَمَك"، "أنتِ تسرقينني"، ينسحِبُ وهو يلعنُنى فى التعليقاتِ بينما أكتبُ أنا على الحائط "يا الله امنحَنى دَمَه، كى أُصَدِّقَ أنك هُنَا".

أريج جمال
أريج جمال

* من قصص "كنائس لا تسقط فى الحرب" الصادرة عن دار مصر العربية أطياف.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة