اعترض طريقى، ظننته صديقا قديما غاب ثم عاد وإن خانتنى ذاكرتى، رحّبت به بحذر لم يمدّ يده بالسلام وإن أومأ برأسه باقتضاب لرد تحيّتى، ثم صمت قليلا وهو يحدّق فى وجهى كمن يبحث عن نقطة يبدأ بها حديثه .
-لا تعرفنى؟
للسن أحكام نرضخ لها جميعا ومن بينها ضعف الذاكرة، فكأنى أعرفك لكنّى أيضا لا أتذكرك جيدا، فرجاء عرّفنى بنفسك وعذرا لجهلى بك؟
- ارتسمت على وجهه شبح ابتسامة خفيفة، ربما لمداراة ضيق أو تخفيف لتوتر ساد بيننا: الحق أنى لست من أصدقائك القدامى، ثم صمت وأردف ولا من معارفك الجُدد، رغم هذا ربما تندهش كثيرا عندما ستدرك أننا نعرف بعضنا البعض جيدا وثمة عشرة استقرت بيننا لفترة.
نظرت إليه وهو يتحدث متمعّنا فى وجهه باحثا عن نقطة أدلف إليه منها بدورى دون جدوى، استقر فى يقينى أنها مزحة من أحدهم أو محاولة هزيلة سعيا وراء شيء أجهله فاطمأن قلبى وتركته يسترسل .
- أراك لا تصدقنى وتنظر لساعتك كأنك تتأفف من حديثى وتسعى لإنهائه بأدب .!
قاطعته بأدب مصطنع: عذرا لا أقصد إهانتك لكن بالفعل لا أعرفك، قلت أنت بلسانك الآن ليست هناك صداقة قديمة أو حديثة بيننا وأراك تصرّ على معرفتك بى فرجاء لا ترهقنى من أمرى عُسرا، والآن من أنت؟!
ــ حسنا لن أثقل عليك، أنا واحد من شخصياتك المشوّهة نفسيا، تلك التى تودعها قصصك وتُصرّ أن تفضحها على الملأ، أنا واحد من هؤلاء الذين يهيمون على وجوههم بحثا عن وجود ضاع منهم، أو هجرا لعالم يرونه على حقيقته .
ألك اسم تخبرنى به؟ أجزم أنها مزحة سخيفة .
-لازلت تُصّر على جهلك بى؟ ألا تعرف أبطال قصصك؟
أيهما أنت؟ فقد كتبت عن كثيرين .
- خمّن من أنا؟!
قلت: غالبية من أكتب عنهم لا أتذكر أسماءهم إلاّ قلة منهم علقوا بذاكرتى ، وأكتفى بالحديث عن شخصياتهم وما حدث لهم، فكف عنّى مزحتك السخيفة، فقد ضقت ذرعا بحديثى معك، وعزمت على الانصراف.. فاستمهلنى معتذرا هامسا ...
- أنا أحد شخصيات أبطالك لست أحدا بعينه، أنا كل أو بعض من كتبت عنهم، على يديك أصبحت أتنفس وأحيا وكلما وقعت عين أحد على قصّتك عنى تندلع شرارة حياة بداخلى، وما التقيتك اليوم صدفة لكن بتدبير وعمد، لأعاتبك على معاناة تزرعها فى نفوس قُرّائك .
بشيء من فخر وتيه: جميل، الفضل لى إذن لوجودك، جئت تشكرنى، لعمرى تلك صفة غابت عن دنيانا اليوم أن يتذكر الناس الفضل بينهم .
- قاطعنى بضيق على وجهه: دون تكّبر وجودنا فى عالمك صنع بعض منك اليوم ، ما جئتك إلاّ لتردّ لنا بعض صنيعنا معك.
أقرأ فى حديثك تهديدا خفيّا، فهل أنا محق فيما ذهبت إليه؟
-ضحك، كمن ضُبط بُجرم وقال: نشهد بحصافتك، أقصد نحن أبطال قصصك ممن جعلتهم أضحوكة بين الناس وعلى رؤوس الأشهاد، وحيث فطنت لمبتغاى فما أتيت لك حامدا فضل ظهورنا على يديك، بل تحذيرك أن الكيل قد فاض بنا .
قاطعته وغيظ يموج بداخلى كبركان: ماذا ستفعلون؟ ما أنتم إلاّ بضعة من أفكارى وضعتها على الورق وأحييتها بإرادتى وإن شئت محوتكم من الوجود.
-لوّح بيديه ساخرا وهو ينصرف: تذكّر كم من الأفكار قتلت أصحابها .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة