خمسينى العمر بداخله بقايا جذوة تمرّد وعناد, كان يدافع عن رأيه بقوة, كمن يدرأ خطرا مقبلا, وفى دفاعه لم يدخر جهدا فى تفنيد آراء الآخرين بل لم يترك فرصة لأحد فى الرد .
ولما رأى أنظارنا تشخص إليه وأسماعنا تركزت معه علا صوته لشرح وجهة نظره بطريقة درامية مستعينا بلغة جسد قوية بيديه ووجهه لإقناعنا, يرى كل شىء سلبى, قال أحدهم بجوارى : يا هذا ألا ترى نورا بنهاية النفق؟!
علت ضحكته ساخرا: بل لا أرى نفقا من الأصل, لكن وهما يسيطر على عقولكم, لعلها طبيعة العامة الذين يؤمنون بما يريح عقولهم والنفق والنور لا يختلفان كثيرا عن معاقرة الخمر أو تعاطى المخدرات فجميعها تُذهب العقل وتعطّل الحواس .
قال حكيمنا وهو رجل قليل الكلام وإن فعل فهمسا: لكننا راحلون جميعا, سيبقى الحلم الذى طالما سعينا وراءه للأجيال القادمة, لعلنا خير مثال لك فنحن على أعتاب الرحيل ولم نيأس ولن نفعل بل يسيطر علينا حبور وتندفع فى عروقنا عاطفة جيّاشة لن تخبو ما ظلت قلوبنا تخفق .
ثار "الخمسينى" منفعلا: وهل تصدق ما تقول ؟! راحلون ؟ وما يُفيدنى بعد رحيلى ؟ وهل سأصحب معى هناك عاطفتى الجياشة هذه ؟ سأرحل وحدى , لذا من باب أولى أن أرحل راضيا عن حياتى .وأنا غير راض عنها ولا أؤمن بما تقولون فأنا جئت هذه الدنيا وحيدا وسأذهب فردا وما بين مجيئى ورحيلى سأعيش حياتى أنا فقط ولا شأن لى بالآخرين فكل ما عدانى وهما ثم علت ضحكته حتى رجّت أرجاء المقهى والخلاء الكبير من حولنا فآثرنا السلامة وانصرفنا مبكرين .