أثار القرار المتهور الذى اتخذه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب كثيرا من المآسى وبعضا من ردود الفعل العربية والإسلامية على المستويين الشعبى والرسمى هى أقل بكثير مما يقتضيه هذا الحدث الجلل، ولا يخفى على أحد ما شجع ترامب على اتخاذ هذا القرار المتغطرس، فما كان له أن يقدِم على اتخاذ هذا القرار وإعلانه أمام الكاميرات بهذا التحدى والاستفزاز لولا حالة التفكك والتشرذم والهوان التى تمر بها أمتنا العربية والإسلامية على المستويات كافة، فالعلاقات بين معظم دولنا العربية والإسلامية، فى أفضل أحوالها، علاقات باهتة وغير مستقرة، وكثير من منظماتنا وهيئاتنا العربية والإسلامية أقرب للجمعيات الخيرية والبيوت الكبيرة التى تجتمع فيها العائلة وصلًا للأرحام ثم ينفض المجتمعون على وعد بزيارة أخرى! ومثل هذه الحال البائسة تجعل أعداءنا لا يحركون ساكنًا لاجتماعاتنا الباهتة، ولا يلقون بالا لقراراتنا وردود فعلنا التى أصبحوا على يقين أنها ستكون أرحم بهم من بعض بنى جلدتهم الغاضبين من قراراتهم المجحفة وممارساتهم الظالمة.
إننا نحن، العرب والمسلمين، وصلنا إلى حالة من الهوان والتشرذم والفُرقة أطمعت فينا أعداءنا وجعلتهم يتداعون علينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها كما أخبر رسولنا، صلى الله عليه وسلم، فى قوله: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله فى قلوبكم الوهن»، وهذه حالنا بالفعل، فكل دولة من دولنا مشغولة بعشرات القضايا الداخلية الملحة، وشعوبنا غارقة فى أعباء الحياة وهمومها، والغنى يخشى أن يفتقر، والفقير يكدح ليبقى على قيد الحياة، ناهيك بانشغال الجميع أو إشغاله بمحاربة الإرهاب الأسود الذى يتخذه أعداؤنا ذريعة لتدمير بلادنا وفرض الوصاية على شعوبنا!
لقد كان ترامب على يقين أننا الأمة التى قالت عنها جولدا مائير حين حُرق الأقصى عام 1969م: «لم أنم طوال الليل ترقبًا لجيوش العرب التى ستأتى إلينا من كل حدب وصوب قبل أن نصبح، فلما أصبحت ولم أجد شيئًا أدركت أنهم أمة نائمة»، ما كان ترامب ولا غيره ليجرؤ على اتخاذ قرار أرعن كهذا لو كان يتوقع أكثر من قرارات الشجب والإدانة والاستنكار وبعض صيحات تنديد من متظاهرين هنا أو هناك سرعان ما تختفى ليمر القرار سالما ويضاف إلى غيره من القرارات التى تعبث بمصائر شعوبنا ومقدساتنا، والعجيب أننا نحفظ ونردد صباح مساء قول ربنا: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»!
إن هذا القرار العدائى ليس مقصودًا لذاته من وجهة نظرى، لأنه لم يغير شيئًا على الأرض، فالقدس محتلة بالفعل، وهى تحت سيطرة الصهاينة من عقود طويلة، وإنما هو بالون اختبار وقنبلة دخان لجس نبض العرب والمسلمين على المستويين الشعبى والرسمى، والتأكد من أننا مازلنا نغط فى نوم عميق أم تجاوزناه إلى غيبوبة أقرب للموت، مما قد يدفعه لاتخاذ قرارات أخرى تجاه عواصم أخرى ليست تحت الاحتلال!
إن عروبة القدس وإسلاميتها مسألة محسومة تاريخا ودينا وواقعا، فنحن الأحق بجميع الأنبياء والمرسلين وليس هؤلاء الصهاينة الذين لا يتبعون نبيًّا من أنبيائهم الذين يزعمون أنهم هم من أعطوهم الحق فى القدس، فكتاب ربنا يجعلنا أولى منهم بأبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام، يقول ربنا: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا»، ونحن من أُمرنا بحمل ميراث الأنبياء جميعًا وليس هم، يقول تعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»، وحتى نبى الله إسرائيل الذى يدَّعون أنهم ينتسبون إليه لم يلتزموا بعهده الذى أخذه عليهم، فكنا أحق به منهم، يقول تعالى: «أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»، وقد عاب عليهم ربنا بل كذَّبهم فى زعمهم أن بعض الأنبياء كانوا هودًا أو نصارى، فقال: «أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ».
المسألة إذًا ليست بمجرد الانتساب وإنما بالاتباع الحقيقى، ثم إن رسولنا الخاتم حامل إرث الأنبياء جميعًا تسلم القدس منهم حين أُسريَ به إليه، وصلى بهم جميعًا فى المسجد الأقصى المبارك قبل أن يعرج به إلى السماوات العلى، وقد تولى صحابته من بعده قيادة القدس، والعهدة العمرية خير شاهد على ذلك، وما فعله صلاح الدين ما هو إلا استرداد لمغصوب، وما سيطرة الصهاينة عليه بعد ذلك إلا غصب جديد من خلال وعد بلفور المشؤوم الذى منح فيه مَن لا يملك جزءًا من أرض العرب إلى عصابة سياسية لا صلة لها باليهودية الخالصة، ولست أدرى لماذا لم تمنح بريطانيا، التى أظهرها هذا الوعد مهتمة لأمر اليهود وباحثة عن توطينهم مع أنها ليست يهودية، قطعة من أطراف مملكتهم مترامية الأطراف تعادل أو تزيد على مساحة فلسطين ليكونوا تحت رعايتهم وعنايتهم، بدلًا من التخلص منهم عن طريق شحنهم إلى بلادنا وتعبئتهم بنبوءات كاذبة، إلا أن يكونوا شوكة فى خاصرتنا وجنودًا مخلصين لهم إن قرروا يومًا العودة إلى استعمار بلادنا، أو على الأقل قتالنا من خلالهم، وهو ما حدث فعلًا فى عدة حروب سابقة!
إن قرار ترامب ما هو إلا امتداد لوعد بلفور المشؤوم، وترسيخ لاحتلال المحتل الغاصب أرضنا، وتكريس لانتهاكه مقدساتنا، تلك الأرض التى لم يرثها البريطانيون ولا الأمريكان عن أجدادهم ليمنحوها للصهاينة، ولا هى من ممتلكات ترامب الخاصة ليقرر إنشاء مستوطنة عليها وإن سماها سفارة، ولا يخفى على أحرار العالم أن هذا القرار الباطل مخالف للمواثيق الأممية والقوانين الدولية التى تنظم وضعية الأراضى تحت الاحتلال، وتمنع إنشاء ما يغير من وضعيتها التاريخية.
إن القدس قبل قرار ترامب وبعده وإلى آخر يوم فى دنيا الناس عربية إسلامية عاصمة أبدية لدولة فلسطين، ويجب أن تبقى مفتوحة لأتباع الديانات كافة، يصلى المسلمون فى مساجدها، ويتعبد المسيحيون فى كنائسها، وهو ما تأكد بالقرار التاريخى الذى اتخذه شيخ الأزهر ثم بابا الكنيسة المصرية برفض استقبال نائب ترامب، وهى بعض القرارات الصريحة الموجعة، بالإضافة إلى إعلان الرفض القاطع شعبيًّا ورسميًّا لهذا القرار وما ينبنى عليه من آثار، واتخاذ خطوات عملية جادة لإبقاء هذا القرار مجرد حبر على ورق، بل للتراجع عنه، وأعتقد أن العرب والمسلمين لديهم أوراق ضغط كثيرة فى هذا الاتجاه، وليس أقل من دعم وتشجيع ثقافة المقاطعة الذاتية لكل ما تنتجه دولة معادية للعرب والمسلمين، وأعتقد أنه قد آن الأوان لوحدة القرار العربى والإسلامى خاصة فى قضايانا المحورية والمصيرية، لقد آن الأوان لتغيير ثقافة الاعتماد على الآخر تحت اسم الصديق أو الحليف، واستقواء بعضنا على بعض بأطراف فى الشرق وأطراف فى الغرب، لقد آن الأوان لمعرفة عدونا من صديقنا، لقد آن الأوان لنعتمد على سواعدنا وعقولنا فى بناء قوتنا وإنتاج غذائنا ودوائنا وكل احتياجاتنا، لقد آن الأوان لنفيق من غفلتنا ونحيى فى أذهان أولادنا وأحفادنا قضية القدس، ونعدهم إعدادًا كاملًا لاستردادها وتحرير قبلتهم الأولى وإن طال الزمن.
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
القدس عربيه ...
مقال رائع وشامل فضيلة الشيخ ...
عدد الردود 0
بواسطة:
اهبلاوى
اذا كان اليهود بيدورا على التاريخ ياتوا جمعيا الى مصر ها يتوها في وسطنا بش يبعدوا عن القدس
النتن ياهوا تاعب نفسه للبحث على اى حاجة ليبرر احتلال القدس وليه اللف والدوران هات كل اليهود اللى عندك يعيشوا عندنا ها يتوهوا بين المصريين ايه ياعنى 15 مليون وسط مائة مليون يعنى اقل من سكان القاهرة المهم يبعدوا عن القدس فالقيادة المصرية زمان لمت شمل بنى اسرائيل وكان يحكمها ابن اسرائيل سيدنا يوسف وجلس اسرائيل وزوجته على عرش مصر وتجمع حوله بنوا اسرائيل جميعا قال تعالى :فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) ۞