كان والدى (رحمه الله) شاعرا مثقفا.. وخريج المعهد الفنى الصحى بإمبابة فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى. وبعد أن أنهى خدمته العسكرية بسلاح المدفعية (وليس الخدمات الطبية) التحق للعمل بالوحدة الصحية بإحدى قرى مركز ناصر، محافظة بنى سويف.. وكله همة ونشاط وأمل.. وحب للعمل.. وأحلام وردية بالمدينة الفاضلة.. التى يعمل أهلها بجد واجتهاد وتفانى فى العمل حتى ولو بنسبة 50٪ (أى مقبول) وهى نسبة ضعيفة جدا فى قطاع الصحة.. ولكنها كانت أقصى طموحاته كبداية لمستقبل مشرق كله امال وحب وجمال (وكل الأشياء التى تنتهى ب ال).
وبعد مرور شهرين من استلامه العمل أصيب بخيبة الأمل التى عادت ما تكون راكبة جمل.. فلم يجتمع طاقم الوحدة الصحية، ولو مرة واحدة، والمكون من الدكتور مدير الوحدة الصحية ومساعديه من ممرضين، فنى تحاليل، مسئولى التطعيمات وحفظ الأمصال، ومفتشين صحة والذين كان والدى أحدهم، وكأنه لا توجد أدنى مشكلة لمناقشتها، وكأن الأمور الصحية بالقرية مئة فل وأربعة عشر .. ولا توجد بلهارسيا . و ترع ومصارف يجب ردمها، وشوارع مليئة بالزبالة ومخلفات الحيوانات يجب تنظيفها، لتفادى الأمراض والعدوى.. ومياه الشرب أنقى ما يكون، وكأن أهل القرية الغلابة لديهم وعى كامل عن رعاية الطفل و حمايته من الأمراض، وتم إعدام جميع الأغذية الفاسدة والمنتهية الصلاحية، والقائمة تطول ..
ظن والدى أنه أبو العلا البشرى .. وإن كنت أعتقد أنه لم يكن قد ظهرت هذه الشخصية للنور من خلال عمل درامى تليفزيونى قدمه الفنان الكبير محمود مرسي، وحاول إصلاح المجتمع من حوله، وهو عبارة عن قرية صغيرة من مئات القرى المنتشرة فى أنحاء مصر . وكان يحلم بالقضاء على شلل المجتمع و الثلاثى ( الجهل، الفقر، والمرض) واعتقد أن هذا هو ما قامت من أجله ثورة يوليو المجيدة ١٩٥٢ و التى كان هو أحد مواليدها .. و الذى نشأ وتربى على أحلامها و انكساراتها و أيضا نصرها .
وقدم شكوى لمديرة الإدارة الصحية وقتها لكشف المشاكل وإيجاد الحلول فى قطاع من أخطر القطاعات وأكثرها أهمية، وهو قطاع الصحة، لأن المستقبل العظيم للشعب السليم ! ولكن هيهات لمن تنادى .. فمن هذا الشاب الحالم القادم من أعماق المدينة الفاضلة .. ويظن أنه سيصلح الكون .. يظن أنه سيقيم الموتى .. ويحيى الضمائر وهى رميم .. هكذا الأمور لا تستقيم .. فماذا سيفعل المهمل و الفاسد و اللئيم .. هل سيذهبون إلى الجحيم .. و هل من المعقول أن يعتزل الشيطان الرجيم ؟
لماذا أعزائى القراء أذكر لكم هذه القصة التى قلبت حياة والدى رحمه الله رأسا على عقب إلى أن توفاه الله فى الثانية والأربعين من عمره عام ١٩٩٥ م .. لأنه من خلال تجاربى مع المستشفيات العامة و الخاصة خلال العشرين عاما الماضية .. يؤسفنى أن أحيى المثل القديم " ما أسخم من ستى إلا سيدى " .. فالمستشفيات الحكومية تعانى من الإهمال ونقص الإمكانيات فى مواجهة شعب هو الأول فى العالم ( الحمدلله فى حاجة بقينا فيها الأول ) فى الأمراض المزمنة إبتداء من البلهارسيا قديما مرورا بالفشل الكلوى و أمراض الكبد و الفيروسات والسرطان بسبب المياه الغير صالحة للشرب و المبيدات المسرطنة و الهواء الملوث و الحياة الرديئة .. أما المستشفيات الخاصة الإستثمارية فحدث ولا حرج .. فإذا ضحك عليك شيطانك ووسوس لك أن تدخل إحدى هذه المستشفيات لتنقذ نفسك من عذاب الانتظار وسوء الإمكانيات فى المستشفيات العامة وتضحى بـ " تحويشة العمر " من بضعة ٱلاف أو لديك تأمين صحى بإحدى شركات التأمين الخاصة .. فيستهلكون رصيدك فقط فى يومين على الأكثر فى تحاليل و أشعة ما أنزل الله بها من سلطان ليتأكدوا أن صحتك زى البمب ويمكنك استئصال المرارة.
ولكن عفوا لقد نفذ رصيدكم برجاء المحاولة فى وقت لاحق .. فرصيدكم لا يسمح بإجراء العملية و مطلوب منك ألفان من الجنيهات لتستطيع الخروج حيا أو ميتا من الغيظ ..
لن أقول أنه يجب أن يكون هناك.جهاز أو هيئة لحماية المرضى .. فما أكثر الأجهزة فى بلادى مع وقف التنفيذ .. و لكن يجب أن يكون هناك وقفة لحمايتنا من عجز الإمكانيات بالمستشفيات الحكومية .. و جشع المستشفيات الخاصة .. و شفاك الله وعافاك يا شعب مصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة