استيقظ "عبد السلام" يتحسس جواله بجواره على سريره لم يجده، فمد يده على زر الأباجورة ليحصل على أى إضاءة فى هذه العتمة التى لا يرى فيها أى شىء بوضوح. فبرغم أن النهار لم تضن شمسه بنورها على الأشياء خارج هذا البيت، إلا أن عبد السلام قد اختار أن يحجب عن بيته أى مدخل تستطيع أشعة الشمس أن تتسلل إليه من خلاله. تغطى نوافذ البيت المغلقة ستائر سوداء غليظة تحبط آمال الشمس فى مرور أشعتها إلى ما وراء تلك الستائر غليظة القلب التى لم تكف عن ابتلاع ما ترسله الشمس.
ضغط على زر الأباجورة فلم تستطع أن تضىء له فتيار الكهرباء مقطوع عنها. ظل يبحث بيديه عن جواله لعله يجد منه أى إضاءة تساعده على الرؤية ولكن بلا جدوى.
"ما هذا الصباح غير المبشر بالخير أبدا"
هكذا همس إلى نفسه وهو يقوم من فراشه محاولا الوصول إلى النافذة. اصطدم أصبع قدمه الصغير بحافة السرير فأطلق صرخة ألم خافتة وراح يلعن هذا الصباح الذى سيضطره أن يسمح للشمس بزيارة بيته التى ستحضر له معها ضيفا يكره وجوده.
استطاع أن يصل إلى النافذة ليزيل عنها الستائر السوداء وهم بفتح الطريق لأشعة الشمس المتزاحمة خلف النافذة لتمر إلى الداخل.
وقف برهة مغمض العينين، ثم فتحهما وهو يعلم من سيرى.
" أنت مرة أخرى أيها اللعين، يا له من يوم سىء"-
هكذا صرخ "عبد السلام" متحدثا إلى ظله الذى بعثت فيه أشعة النهار الحياة من جديد.
لم يتوقف ظله عن مضايقته بحركاته المستفزة، فمثلا يضع الظل يديه فوق أذنيه ويحرك أصابعه كحركات الصبيان السخيفة أو يظل يرقص كرقصات "مايكل جاكسون" أو يفعل غير ذلك من الحركات فهو يتفنن فى مضايقة صاحبه.
إنه الظل الوحيد فى الكون الذى يخالف حركات صاحبه وهذا الأمر تسبب فى اعتزال "عبد السلام" الخروج بالنهار، فأصبح كائنا ليليا لأنه يخشى أن يحرجه ظله أمام الناس بحركاته وتمرده.
ولد ظل "عبد السلام" مسالما كأى ظل ولكن تمرده بدأ منذ حوالى عام تقريبا فظن "عبد السلام" أن ما يراه هو من تأثير حبوب الهلوسة والإفراط فى شرب الخمر، لكنه وجد أن الأمر لا يتغير حتى فى الأيام التى حاول فيها الامتناع المؤقت عن كل هذا. كلما أفرط ظله فى مضايقته، لاذ "عبد السلام" بالفرار إلى الخمر لتسكره، فزاد تعلقه بالخمر أكثر وأكثر.
بحث "عبد السلام" عن جواله فوجده على الأرض بجوار السرير فتناوله بينما استمر ظله فى أداء رقصاته وإشاراته المستفزة. اتصل "عبد السلام" بحارس العمارة ليسأله عن سبب ومدة انقطاع التيار الكهربائى فأخبره أن هناك إصلاحات فى أحد الكابلات وسيعود التيار الكهربائى خلال ساعة.
إذن على أن أتحملك ساعة، أتوسل إليك كن رحيما بى ولو مرة"-
هكذا قال "عبد السلام" مخاطبا ظله فى يأس واستسلام.
"لا أفهمك يا بيه، ماذا فعلت أنا ؟ "=
انتبه "عبد السلام" إلى صوت حارس العمارة خارجا من الهاتف، فاستدرك قائلا:
" لا شىء يا جابر، لا أقصدك"-
أنهى المكالمة وتأكد أنه أغلق الخط فعلا، ثم طفق يستكمل معاناته مع ظله المتمرد.
رن الهاتف ليقطع مشاجرة الرجل مع ظله، إنه إتصال من "مهند" صديق "عبد السلام".
" آلو..."-
" كيف حالك يا عبد السلام، أوقظتك من النوم ؟! "=
"لا..كنت مستيقظا"-
ثم صمتا لبرهة فبادره عبد السلام قائلا:
– "ما الخبر يا مهند، صوتك وموعد اتصالك يشعرانى أن هناك شىء مقلق، ماذا حدث؟"
أجابه "مهند" متلعثما:
= "اسمعنى يا صديقى، هو مجرد شك وغير مؤكد وأن شاء الله لن يكون الأمر كذلك".
صرخ فيه "عبد السلام" والقلق يغرس أنيابه فى قلبه:
" أرجوك أخبرنى ما الأمر دون مقدمات سخيفة مثلك، قلبى لا يحتمل هذه الطريقة"-
= "حسنا سأخبرك.. رأيت منذ دقائق منشورا على الفيسبوك عن حادث غامض حيث عثروا على جثتين بالطريق الصحراوى لسيدة شابة ورضيعها، ولا يوجد معها ما يثبت هويتها".
قاطعه "عبد السلام" بصوت واهن يخرج بصعوبة من حلق إنسان قد أجهز عليه الخوف :
" رهف وابنى يا مهند ؟ "-
= "لا أنكر أن الصورة تشبه رهف ولكن الصورة غير واضحة الملامح بشكل كامل فأعتقد أنك ستكون الأفضل فى التعرف على الجثة إذا كانت هى أم لا. وقلبى يحدثنى أنها ليست هى".
انفجر "عبد السلام" فى البكاء، ثم قال "مهند"
= "تماسك يا صديقى، لعلها ليست هى. أنا فى الطريق إليك سأخذك للتعرف على الجثتين وأن شاء الله لن تكونا لزوجتك أو ابنك".
"أرسل إلى الصورة أرجوك يا مهند، الآن"-
" حسنا سأفعل ولكن ارجوك أن تتماسك"=
أرسل "مهند" المنشور لصديقه المسكين عبر النت، لكن للأسف لم يستطع "عبد السلام" أن يجزم إذا كانت صاحبة الجثة هى زوجته فعلا أم لا فالصورة غير واضحة بشكل كافى وخاصة أن هناك إصابات وكدمات فى الوجه.
لم ينتظر "عبد السلام" صديقه مهند حتى يصل إليه، فانطلق متوجها إلى المشرحة للتعرف على الجثتين. لم يكن ظله رحيما به حتى فى الوقت الذى هو فيه فى منتهى الألم والضعف. استمر ظله يتراقص أمامه ويصنع حركات مستفزة دون أى رأفة بحاله.
طول الطريق راح "عبد السلام" يسترجع ذكرياته مع زوجته "رهف" التى تزوجها منذ ثلاثة أعوام. كم كان يشعر بالأمان فى حضنها الدافئ الحنون، كم احتملت حماقاته وخياناته، كم صبرت على ضعفه أمام إدمانه للخمر والمخدرات. تذكر كم كانت الحياة جميلة وصوتها يملأ عليه البيت حتى وهى تصرخ فى وجهه ليكف عن تدمير حياتهما. تذكر كم كان ولازال يعشقها ويتمنى أن تعود إليه مرة أخرى هى وابنه الذى أخذته منذ عام وهربت به قبل أن يتم شهره الثانى. تذكر الرسالة التى تركتها له "رهف" بعد أن أخذت ابنهما ورحلت إلى مكان لا يعلمه أحد.
وصل "عبد السلام" إلى المشرحة وقدماه تجاهدان ضعفهما حتى تستطيعا أن تحملانه. توجه إلى الموظف المسئول وأخبره أنه جاء ليتعرف على جثة السيدة ورضيعها وقبل أن يتم كلامه، قاطعه الموظف قائلا::
= تقصد السيدة الشابة التى عثر عليها عند الكيلو 40 مع رضيعها ؟
رد "عبد السلام" فى ألم :
- نعم
فقال الموظف :
= السيدة " أميمة ؟
رد عبد السلام متسائلا :
-هل تم التعرف عليها ؟
= نعم منذ ساعة تقريبا
شعر "عبد السلام" أنه يكاد يبعث من جديد ولكنه يريد أن يتأكد فأخرج هاتفه المحمول وعرض الصورة على الرجل قائلا :
- أعنى هذا المنشور وهذه الصورة
فنظر الموظف إلى المنشور والصورة ثم قال مؤكدا:
= نعم يا سيدى، تم التعرف عليها واسمها "أميمة
أطلق "عبد السلام" ضحكات متناثرة، تقاطعها عبرات حارة ثم انطلق يجرى كالمجنون فى الشارع وظله يجرى معه ولا يكف عن سخافاته التى لم يعد فى مقدور "عبد السلام" أن يتحملها. توقف "عبد السلام" فى الشارع غير عابئ بالناس من حوله ثم أخرج مطواة من جيبه وراح يصرخ منقضا على ظله محاولا أن يسدد إليه طعنات عنيفة ولكن الظل لا يموت ولا يتوقف عن الحركة.
نظر المارة إليه فى اندهاش مشفقين على هذا الرجل فاقد العقل فلم يحاولوا الاقتراب منه حتى لا يصيب أحدهم بأذى فهو يحمل فى يده مطواة. يئس "عبد السلام" من الخلاص من ظله الذى لا يموت فقرر أن يسدد الطعنة إلى قلبه هو.
فتح "عبد السلام" عينيه ليجد نفسه راقدا فى سرير متصل بأجهزة طبية، فى العناية المركزة لأحد المستشفيات. سمع صوتا بجواره يسأله:
"كيف حالك ؟"=
نظر إليه فوجده طبيبا ذا معطف أبيض يقف بجوار سريره. هز "عبد السلام" رأسه دون أن يتكلم.
فسأله الطبيب:
"هل تعرف ما اسمك؟"=
فرد عبد السلام قائلا::
-عبد السلام
" هل تعرف أين نحن الآن يا عبد السلام ؟"=
فى مستشفى -
فابتسم الطبيب قائلا:
= عظيم.. حمدا لله على سلامتك
ثم استطرد الطبيب قائلا:
= هناك شخصا يريد زيارتك وسأكسر قواعد العناية المركزة هذه المرة من أجله وأسمح له أن يدخل لك الآن خارج المواعيد الرسمية للزيارة.
أغمض "عبد السلام" عينيه متعبا فهو لا طاقة لديه ولا رغبة فى أن يزوره أحد أو يتحدث إلى أحد. دخلت سيدة شابة ذات وجه بريء أصابه الذبول والشحوب واقتربت من سريره. ثم أمسكت يده ففتح عينيه ليجدها صاحبة الوجه الذى لم يغادر وجدانه لحظة. قبلت يده ودموعها تنهمر على خدها الشاحب.
إنها "رهف" زوجته. نظر إليها بعينين مسكرتين ولم يملك سوى أن يجيب قبلتها بدموع ذرفتها روحه المنهكة، ثم أغمض عينيه متعبا.
أحيانا يحمل العمر للإنسان أكثر من ميلاد، وهكذا كتب الله لعبد السلام ميلادا جديدا حيث خضع لعلاج الإدمان والعلاج النفسى ليعود رجلا جديدا يستحق أن يكون أبا وزوجا.
أما ظله فقد عاد الآن لطبيعته التى خلق الله عليها جميع الظلال، فقد شفى "عبد السلام".
عدد الردود 0
بواسطة:
جميلة فعلا
جميلة فعلا
جميلة فعلا