نشوى رجائى السماك تكتب: "الترنيمة"

الأحد، 11 سبتمبر 2016 12:16 ص
نشوى رجائى السماك تكتب: "الترنيمة" شروق الشمس – أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

عاودها الاشتياق إلى مراقبة شروق الشمس الذى طالما عشقته ولا تعرف ما هو هذا الشىء السحرى الذى يربطها بشكل غير مفهوم بانتظار هذا العرس اليومى الذى يشهده الكون بعد انسلاخ الليل. عرس يتكرر يوميا لا تمله ولا يمله الكون بل إنه ليستقبله فى كل مرة بنفس الشغف ويتجدد كل شىء ليبدو أجمل من سابقه.

 

جلست "يسرا" إلى نافذتها التى باتت تنتظرها فى نفس الموعد كل يوم. جلس بجانبها قطها الذى أخرج رأسه من النافذة متكئا عليها بذراعيه الصغيرتين كما لو كان إنسانا صغيرا. تعلقت عيناها بالسماء ويبدو أنها اليوم لن تعطى الأرض نصيبا من نظرات عينيها الهائمتين المسافرتين فى السماء. كان القط ينظر مرة إلى السماء ومرات أخرى عديدة إلى الأرض, لا يرى فى السماء سوى تلك الطيور التى تستفز لديه نزعة الصيد فيحلم أن تخطئ طريقها فتدخل إلى مملكته فى بيت صاحبته, بينما صاحبته ترى فى السماء عالما لا محدودا تحلم بالسفر يوما إليه وفيه ومن خلاله إلى كل شيء ارتقى عن العالم الأرضى. تسافر بناظريها إلى عالم تشتاقه بشدة ولا تستطيع أن تصل إليه.

 

أقبلت سحابة كبيرة من أقصى الشرق على امتداد البصر لتستقر فى أقرب نقطة ممكنة من نظر "يسرا". كانت الفتاة تراقب السحابة وقلبها يحدثها بأن هناك شيئا مختلفا قد تحمله. وبالفعل كان قلبها محقا فقد انشقت السحابة أمامها فانتابها شيء من الفزع والترقب الطموح, ثم خرج منها ثلاث فتيات لهن هيئة وملامح البشر ولكن وجوههن لهن إضاءة البدور فى تمامها. فزعت منهن لأول وهلة – كما نفزع حينما يفاجئنا خارق لم نعتاده- ثم شعرت تجاههن بألفة عجيبة.

 

تحدثت إحداهن إليها قائلة:

"نحن لسنا جنيات ولا كائنات فضائية, بل نحن بشر مثلك عشقنا السماء وتعلقنا بها وكان حلمنا مثل حلمك, ولكننا قد اهتدينا إلى سر تحقيق هذا الحلم. إنه السر الذى مكننا من أن نسافر فى عالم السماء اللامحدود".

نظرت إليها "يسرا " بعينين يتلألأ بداخلهما الطموح مختلطا بالدهشة والتساؤل ولكنها لا تنطق تاركة لهن فرصة استكمال الحديث، فتتحدث الثانية لتكمل حديث رفيقتها قائلة :

"تريدين أن تسافرى إلى السماء، والأرض تجذبنا قهرا. ولكن عليكى أن تعلمى أن الأرض لا سلطان لها إلا على ما ينتمى إليها ويرتبط بها ويخضع إليها خضوع العبد الضعيف إلى سيده القوى. لقد خلقنا من تراب الأرض وحلت الروح بنا لترتقى بهذا التراب الأرضى فتظل الروح تجذبنا للتعلق بالسماء ويظل التراب الذى خلقنا منه يشدنا إلى الأرض.

وجئنا إليكى بالسر فى ترنيمة حينما ينشدها قلبك يغفو الجزء الأرضى بداخلك لمدة لا يعلمها إلا الله، إلا أنه كلما ازدادت عذوبة وجمال الإنشاد كلما طالت غفوة ما يقيد حريتك. ولكن عليكى أن تعرفى شيئا قبل أن تقررى السفر ألا وهو أنه قد لا تعودين كما كنت أبدا".

ثم امتدت يد الزائرة الثالثة إلى "يسرا" حيث أعطتها مكتوبا لتقرأ منه هذه الترنيمة المعجزة. أخذته "يسرا" دون أن تنبس ببنت شفاه ثم نظرت إلى قطها الذى اختبأ بين ذراعيها فهو يخشى الغرباء والمفاجآت.

انطلقت الزائرات الثلاث إلى حال سبيلهن وبقيت "يسرا" والترنيمة وقطها المختبيء بحضنها. لقد قررت الآن خوض التجربة التى طالما حلمت بها بالرغم من أن عبارة " قد لا تعودى كما كنت أبدا" ظلت تستثير مخاوفها وأوجدت مساحة للتردد الذى تكرهه رغم انه كان رفيقها فى أوقات كثيرة فى حياتها.

وجهت"يسرا" حديثها لقطها القابع بحضنها قائلة :

"لقد قررت أن أخوض التجربة وأن ألاحق حلمى لعلى أظفر به, فهلا أخذتك معي؟"

ابتعد القط عنها خائفا فهو لم يجرؤ يوما أن يشاركها هذا الحلم مثلما شاركها الطعام أو اللعب أو النوم. اقتربت منه ومسحت على رأسه ثم عادت إلى مكانها وأخذت تنشد الترنيمة بقلبها الذى عبر صوته العذب آفاقا لم يخطر بباله يوما أن يصل إليها.

و تحقق الحلم فوجدت نفسها ترتقى فى السماء ,تراقص الكواكب، تقبل الأقمار وتعانق الحرية التى لم تشعر بها مثل الآن.

كم جميل هذا السحاب الذى يتشكل لها كما تريده, فتارة تريد أن تغوص فيه وتارة أخرى تريد أن يكون لها بساطا تتنقل به فى السماء وأحيانا تغلبها فرحتها واحساسها بالحرية فترقص فوقه فيضحك حينما يشعر بفرحتها وجنونها.

صارت تتنقل من سحابة لأخرى فى جنون جميل إلى أن وجدت شابا تعرف ملامحه جيدا ولكن وجهه يضوى وكأن شمسا قد نبتت بجوفه, يرتدى ثياب الأمراء كما فى الحكايات التى كانت تحكيها جدتها. نظرت إلى نفسها فإذا بها هى الأخرى ترتدى ثياب الأميرات كما فى نفس الحكايات.

نظر إليها الشاب والحب بعينيه يعانق قلبها الذى كان يعرفه جيدا, وهى الأخرى كان الحب بعينيها يسبق خطواتها نحوه. مد إليها يده ليراقصها فتركتها له وصارت ترقص معه والسعادة تصاحب خطواتهما.

 لعل الكون اليوم يشهد عرسا جديدا مع شروق الشمس. ولكن هذا العرس أيضا له غروب برغم الحب ونقاءه حيث أن حبهما لا يكون صاحب الكلمة العليا عليهما إلا فوق السحاب حينما يستطيع كل منهما أن يتحرر من العند والكبر. عجيب أمرهما فكل منهما حينما ينزل إلى الأرض فإنه يركض هاربا من الأمان بدلا من أن يركض نحوه.

استيقظ التراب الأرضى من غفوته وهبط كل منهما إلى مكانه. ظلت "يسرا" تحتضن ذكرى اللقاء الذى شهدته السماء وتتمنى لو أنهما يستطيعا أن يحررا حبهما من القيود التى يكبلاه بها.

أمسكت بهاتفها المحمول لترسل إليه رسالة وقبل أن تنتهى من كتابتها جاءها تنبيه لوصول رسالة.

!" أيمن !! إنه هو "

ابتسمت ابتسامة تسع الكون كله وبدأت تقرأ رسالته:

"عزيزتى يسرا كان لقاؤنا جميلا يستعصى على أى لغة فى الكون أن تصف جماله...تحرر كل منا من قيود حرمته كثيرا من جنة كان يمكنه أن يستمتع بروعتها منذ سنوات.

كم تمنيت ألا ينتهى هذا اللقاء أبدا...و لكنه انتهى.

للأسف لا أظن أننا نستطيع على الأرض أن نصبح سماويان، لا أستطيع أن أنسى أنك يوما قررت إنهاء علاقتنا بلا مبالاة بعمق ما كان يجمعنا، حيث توهمتى أنى أفكر بطريقة تمس كرامتك لأنك لم تتفهمى أنه من المقبول أن يكون هناك مساحة من الاختلاف فى شخصية كل منا.

 لقد تركتينى فى أكثر الأوقات التى شعرت معك فيها بالأمان والحرية. كنت متوهما أنك قد امتلكتى مفاتيح ذاتى ولكنك خذلتينى كما لم يفعل بى أحد من قبل.

أنا لا أكرهك ولكننى لا أستطيع أن أقول لك أنى أحبك إلا حينما تراقصيننى فوق السحاب لأننا وقتها نكون شخصين مختلفين عن هذين اللذين نكونهما فى عالمنا الأرضى. وقتها فقط أتذكر أنى فعلا أحبك.

عزيزتى "يسرا" أعلم أنك كنتى تكتبين لى رسالة أنت الأخرى ولكن دعينى أخبرك بما كنتى ستقولين فى رسالتك.

ستكتبين عن روعة لقاءنا وكم كنا سعداء وقتها، ستبكين صادقة حزنا على ما قد خسرناه واشتياقا لرجوعه مرة أخرى وستعتذرين عن ما صدر منك فى حق هذا الحب الذى دهسناه بنعال العند والكبرياء، ثم ستبدأين فى لومى وعتابى ولربما بل بالتأكيد سوف تبدأين فى جلدى بسياط الحساب العسير بتهمة أنى لم أسامحك ثم إذا أخبرتك أنى لا أستطع إلى الآن أن أتجاوز الموقف فستهرعين مرة أخرى إلى كبريائك قاتلى ليقلتك كما قتلنى ويقتل معنا حبا لم نمهله أن يزهر.

عزاؤنا فى تلك الترنيمة المعجزة، لا تتركيها فهى السبيل الوحيد إلى سعادتنا التى لم نستطع أن نحققها على الأرض".







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة