ما وقع فى تركيا كان مفاجئاً لنا فى مصر. حيث طيرت وكالات الأنباء خبر وقوع انقلاب عسكرى فى تركيا. وقد سيطرت على مشاعرنا وأفكارنا وجهتين، الأولى: تاريخ الانقلابات العسكرية التركية، الذى يؤشر بنجاحها جميعاً. الثانية: الأمانى التى صاحبت الأحداث بنجاح الانقلاب، كرد فعل انعكاسى، لما تمارسه السلطات التركية فى مواجهة مصر، كدور تآمرى يستهدف إسقاط الدولة المصرية، لصالح الجماعة التى ينتمى إليها نظام الحكم التركى. وبعد عدة ساعات جرى اعلان فشل الانقلاب. وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل مشروع: هل ما وقع يعد انقلاباً فعلياً، أم أنه مسرحية جرى الإعداد لها على عجل ؟. وهنا نقول أن ما وقع لا يعد انقلاباً فعلياً، وذلك لسببين: الأول ـ أن الجيش التركى له خبرات واسعة فى الإعداد والتخطيط والتنظيم والتوجيه فى إدارة الانقلابات العسكرية على مدى تاريخه، والتى تعد من المواريث العسكرية المتعارف عليها، خاصة وأن الإنسان كائن له ذاكرة، وكذا كائن له تاريخ. والسر وراء الإهتمام بهذه الأصول أن المسألة ليست من قبيل الهزل، ولا يمكن نسبتها إلى اللعب، لأن اللعب أصبح يخضع لذات القواعد الصارمة، وإنما لأن ثمنها باهظ يتعلق بوجود الرقاب أو الإطاحة بها. الثانى ـ أن ما جرى مسرحية هزلية، قد يكون متفق عليها، أو سمح بتمريرها. والدليل على ذلك أن قادة الإنقلاب تجاهلوا أبسط قواعد اللعبة ومنها: القبض على أردوغان، ورئيس الحكومة ووزرائها، وقادة الأحزاب السياسية، وكبار قادة وزارة الدفاع وهيئة الأركان، وقادة الأسلحة الموالين لأردوغان، والسيطرة الكاملة عل أجهزة الإعلام، وأعضاء البرلمان، والمطارات والموانئ، بعدها يظهر قائد الانقلاب على شاشات التلفاز لإعلان الاستيلاء على البلاد، وفرض حالة الطوارئ، وإعلان حظر التجول. إلا أن كل ذلك لم يحدث، بل تحول المشهد على مسرح السياسة التركية إلى مشهد عبثى لا معقول. ثم فوجئنا بمشاهد أكثر عبثية حين رأينا بأم أعيننا قوات الأمن الداخلى التابعة لوزارة الداخلية المسلحة تسليحاً خفيفاً، هى التى تواجه دبابات وطائرات قوات الانقلاب.
هذا بخلاف أننا لم نلحظ أى وجود لقوات الجيش الموالية لأردوغان فى مواجهة قوات الانقلاب. والطريف هو ما رأيناه من استسلام جنود الجيش، ورفع أيديهم فوق رؤوسهم، والانبطاح أرضاً، أمام أفراد مدنيين، هذا بخلاف عدم وجود أى من الجماهير المؤيدة للانقلاب، أو المعارضة لأردوغان. فإن لم يكن هذا السيناريو متفق عليه، فلا أقل من أنه قد جرى تمريره. أى أن أجهزة الاستخبارات العامة والعسكرية وقيادات فى الجيش كانت تعلم بهذا المخطط، وأنه كان تحت السيطرة، وجرى تمريره لمصلحة أردوغان وحزبه، حتى يكون تكئة له فيما يقدم عليه من إجراءات دراماتيكية.
وقد يقول قائل بأنه ليس من المتصور تحمل مخاطرة إجراء هذا السيناريو أو تمريره لأن فيه مغامرة غير مأمونة العواقب. وهنا أقول بأن ذلك يتوافق مع طبيعة شخصية أردوغان المغامرة.
ويدعم سيناريو المسرحية أن دوافعه موجودة وفاعلة فى رأس أردوغان، فهو يهدف إلى تمرير التعديلات الدستورية التى تحيل النظام فى تركيا إلى نظام رئاسى كامل، حتى تزيد صلاحيته الدستورية. هذا بخلاف التخلص من كافة معارضيه أو الموالين لمعارضيه داخل الجيش، وكذا وزارة الداخلية، وفى داخل القضاء، وهو ما قد بدأ بالفعل. ونحن فى مصر لا يعنينا الأمر من قريب أو بعيد، سوى من جانب أن تركيا دولة اسلامية موجودة فى ذات الإقليم، واستقرارها مهم فى حالة الاضطراب الإقليمى الراهنة، ولولا وجود أردوغان واحتضانه لأفراد جماعة الإرهاب، وموقفه من مصر، لكان لمصر موقف آخر. ولا شك أن قطاعات عريضة من الشعب المصرى ـ وأنا منهم ـ قد أصيبوا بخيبة أمل، على إثر فشل الانقلاب العسكرى فى تركيا، ولكن يبقى أن نقول لعل أردوغان يكون قد وعى الدرس، وأدرك الفرق بين الانقلاب العسكرى والثورة الشعبية. وإن كان لهذا الفشل من فائدة للمصريين، فهى تتمثل فى عدو معروف خير من حبيب غير معروف.
