قد يصفها البعض بالتخلف ويطالبون بتوقيع أقسى العقوبة عليها حتى تكون عبرة لغيرها، يخرج أصحاب الأبواق الإعلامية والمنظمات الحقوقية والنسائية فى كامل زينتهم عبر شاشات الفضائيات يتحدثون عن قسوتها وعن تلك الجريمة النكراء التى ارتكبتها فى حق ابنتها، ويطل علينا المشايخ والقساوسة ليكرروا فتاواهم وأقوالهم بأن الختان ليس من الدين وأنه مجرد عادة، وتصدر وزارة الصحة بياناتها وتحذيراتها بتجريم الختان وعقاب من يقوم بهذه العملية، وبعدها ينفض المولد وينسى الجميع حتى تسقط ضحية أخرى.
ولكن تبقى حسرة موت ميار فى قلب والدتها إلى الأبد..حسرة لا تزول إلا بالموت وألم ممزوج بمشاعر ندم لا يشعر به سواها مهما ادعى الكل حزنه على موت الفتاة ضحية الختان.
منذ وقعت هذه الجريمة وأنا أتخيل مشاعر هذه الأم التى كانت سببا فى وفاة ابنتها عن دون قصد منها ولا تعمد، ولا أنكر أننى شعرت بالتعاطف والشفقة حين قرأت عن ظروف هذه الأم وما عانته فى حياتها.. " قلبى اتكسر..أنا أكتر انسانة حزينة على موت بنتى..كان نفسى أشوفها متخرجة من الجامعة وأفرح بيها فى بيت جوزها"..كانت هذه كلمات الأم بعد أن سلمت نفسها للنيابة التى وجهت لها وآخرين تهمة هتك عرض ابنتها وإجراء عملية مخالفة للقانون مما تسبب فى وفاتها.
بالطبع هى أكثر إنسان على وجه الأرض أصابه الحزن لموت ميار، وبالتأكيد فإنه لم يخطر ببالها أن ابنتها ذات ال 17 ربيعا ستموت هى أو شقيقتها التوأم أثناء هذه العملية، وكيف لها أن تتخيل ضررا يمس إحداهن دون أن ترده، فالأم الممرضة التى تزوجت طبيبا وأنجبت منه ثلاث أبناء، منهم بنتين توأم هما ميار وشقيقتها، فجأة مات زوجها بأزمة قلبية ليتركها أرملة شابة جميلة وفى رقبتها ثلاث أطفال.
رفضت أم ميار كل عروض الزواج ووهبت حياتها لأطفالها، ارتدت النقاب ظنا منها بأنه سيحميها من نظرات الناس ومضايقاتهم، وعادت إلى عملها كحكيمة عمليات حتى تنفق على أطفالها.
أم كهذه يصبح قلقها مضاعفا على أبنائها، قد يتحول إلى خوف مرضى، ووساوس من أن يصيب أبناء عمرها أى مكروه، ويرتفع داخلها صوت عادات وتقاليد وموروثات ترى أن عفة الفتاة وتحصينها من الخطيئة لا يكتمل إلا بالختان.
يؤرقها هذا الهاجس يوميا، لا تنام قلقا على ابنتيها اللتين وصلتا لسن الأنوثة، ولا يخفف من هواجسها فتاوى تصدر من مشايخ اعتادت هى وكثيرون غيرها عدم تصديقا، تراهم يصدرون فتوى وبعدها يطلقون عكسها، مشايخ فقدوا ثقة الشارع، إما لأسلوبهم الفظ أو لخلو كلامهم ووجوههم من الصدق، بعضهم يصدر الفتوى طبقا لتوجهات سياسية، فترى منهم من يسوق الأدلة ليؤكد أن الختان ليس من الدين والبعض الأخر يحاول أن يثبت العكس.
لم تجد أم منار وآلاف الأمهات مثلها شيوخا وعلماء دين جديرين بثقتهن، ولم تفلح الفتاوى الرسمية فى إنقاذ أرواح ميار وأخواتها من الفتيات ضحايا الختان.
لم تصدق أم ميار وآلاف الأمهات مثلها أحاديث سيدات المجتمع والفضائيات من عضوات المنظمات النسائية، تراهن لا يشبهونها ولا يتحدثون عن همومها فلماذا تصدقهن حين يتحدثن عن الختان.
لم تصدق أم ميار وآلاف الأمهات مثلها بيانات وزارة الصحة التى تؤكد أضرار الختان وتحذر منه، فى حين ترى الأطباء والطبيبات هم من يقومون بإجراء هذه العمليات حتى أن الإحصائيات الرسمية أكدت أن 82% من عمليات الختان يقوم بها أطباء، تحاول الأم أن تجد إجابة أمينة حول حاجة ابنتها للختان أو لا، فتستشير طبيبا أو طبيبة ولا تجد سوى إجابة واحدة عند أغلبهم ممن يسعون لزيادة دخلهم " أيوة البنت محتاجة ودى عملية بسيطة "
لم تصدق أم ميار وآلاف الأمهات مثلها نصائح وحوارت الإعلاميين على الفضائيات وما تنشره الصحف عن خطورة الختان، وكيف لها أن تصدق هؤلاء وهى ترى أكثرهم يبدلون مواقفهم وأقوالهم ليل نهار، فلماذا تصدقهم حين يتحدثون عن الختان.
هكذا فشلت كل حملات محاربة الختان لأن من يتحدثون غير موثوق بهم ولا يصدقهم الناس، وهكذا فشلت كل الأجهزة فى إقناع أم ميار وآلاف الأمهات مثلها بالتوقف عن ختان بناتهن، لأنهن لا يصدقن من يتحدثون عن هذه القضية ولا يسلمون عقولهم إلا لتقاليد قديمة لم تتغير.
وبعد سقوط كل ضحية يدعى الفاشلون الحزن ويرسمون على وجوههم ملامح الأسى ويطالبون بتوقيع أقسى العقوبة على الأمهات والأهالى الذين يلجأون لختان بناتهم، بينما هم الجناة الحقيقيون الذين يجب محاكمتهم، فهم من قتلوا منار وأم منار ومئات الفتيات من ضحايا الختان بكذبهم الدائم وعجزهم عن تغيير مفاهيم استقرت فى العقول ولن يغيرها إلا أناس يحظون بالثقة ويتمتعون بالصدق.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة