طــارق ناجح يكتب: عم سمير الكهربائى

الجمعة، 20 مايو 2016 04:06 م
طــارق ناجح يكتب: عم سمير الكهربائى شخص حزين - أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عندما التقاه إبراهيم فى خريف عام ١٩٩٧م.. كان يزحف بهدوء نحو عِقدَه السادس.. كان يسكن إحدى حجرات الدار وحيداً.. فهو لا يحتمل صخب وضجيج هؤلاء الطلبة الملاعين القادمين من جنوب مصر وصعيدها أو شمالها ( مدن القناة ،الدلتا، أو الإسكندرية ) ليلتحقوا بجامعة حلوان الشابّة ( تأسست فى ٢٦ يوليو ١٩٧٥م ).. فهم لا يحملون للدنيا هَمَّاً، ولم ينالهم منها غمّا. فهم يرتعون فى خير ذويهم سواء كان قليلاً أو كثيراً. كان عم سمير يعيش منزوياً داخل حجرته.. لا تسمع له سوى بعض الصرخات من آن لآخر.. لاعناً ابو الجامعات.. على أبو التعليم الذى تدهور حاله وأصبح يقبل مثل هؤلاء الطلبة الملاعين الذين لايكُفون عن الصياح والضوضاء والتراشق بالألفاظ البذيئة.. وعندما يبدأ عم سمير بالصراخ يلزم كل طالب حجرته وسريره، وكتابه فى بعض الأحيان حَتَّى تهدأ عاصفة عم سمير ويعود إلى صومعته ووحدته وهدوئه، وسجائره التى يكاد يغطى دخانها الكثيف اللمبة المُعَلَّقَة بسقف الحجرة. جاء الأستاذ رجاء المسئول عن الدار ذات يوم وقال لهم أنه يوجد وافد جديد وعلى أحدهم الإنتقال للإقامة مع عم سمير فى حجرته. هنا تعالت الأصوات معلنة رفض الإقامة مع قاهر الكلام وأمير الانتقام..

فقال سعد مازحاً ومتقمصاً شخصية الرئيس الراحل أنور السادات :- يا أستاذ رجاء.. أنا مستعد أن أذهب إلى آخر الدنيا.. وسيندهش الحاضرون جميعاً عندما أقول لهم.. أننى مستعد أن أذهب إلى الحمام ذاته..
ولا إننى أذهب إلى العم سمير.. زَميلى يقولوا عليه إيه.. هَبَّطل أهزر معاهم..

كان إبراهيم يراقب المشهد صامتاً بينما الكل يعلن رفضه، ولكن يبدو أن الاستاذ رجاء من أشد المؤمنين بأن "السكوت علامة الرضا".. إذ فجأة قال :- خلاص بقى.. يبقى أنت يا إبراهيم تُنقل مع عم سمير..

وكان إبراهيم يعلم أنه لا يملك حق الرفض حيث أنه قد تأخر كثيراً فى دفع الإيجار، وليس أمامه خيار.. إما الانتقال مع عم سمير أو الخروج من الدار إلى حيث لا يدرى..

مضى أسبوعان وعم سمير لا يتحدَّث مع إبراهيم إلا فى أضيق الحدود، وفى صيغة أوامر.. أفعل هذا.. ولا تفعل ذاك. ولكن استطاع إبراهيم بخفة ظِلِّه وبعض ( قفشاته ) أن يجعل أبو الهول ( عم سمير) يبتسم بل وفى بعض الأحيان يتعالى صوته بالضحكات التى لم تعرف طريقها إليه منذ سنوات طويله. وشيئاً فشيئاً بدأ عم سمير يفتح خزائن أسراره لإبراهيم. وعلم إبراهيم السر الغامض وراء تَجَهُّم عم سمير.. لقد كان الرجل يعمل كهربائياً بأحد مصانع الغزل والنسيج المتناثرة فى أنحاء الجمهورية شمالا وجنوبا..

شاهدة على عصر ثورة يوليو وعهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.. وكان يعيش حياة هادئة هانئة.. ينهى ورديَّته بالمصنع ليقوم بنقل الأفراد مقابل أجر على دراجته الناريَّة اليابانية الصنع ( جاوا ) فلم تكن مصر وقتها عرِفت الصينى منها.. وأكد له أنه أحياناً كان يٌقِّل ثلاثة أو أربعة أفراد غيره على الدراجة عندما يكونوا أقارب أو أصدقاء.
كان عم سمير يعيش قانعا، راضيا بحياته وسعيدا خاصة بعد أن رزقه الله بأصغر أبنائه أمير فى شتاء ١٩٧٩م. كان يكبر أمامه يوما بعد يوم.. وكل يوم يمر تتعلق به روحه أكثر فأكثر.. إلى أن وافته المنيه فى صيف ١٩٨٧م. وتهاوت حياة عم سمير لتصبح أنقاد وأطلال تحت وطأة هذه الفاجعة التى لم تتحملها أعصابه.. فقرر الهروب إلى أبعد مكان يمكنه الوصول اليه.. فكل مكان يمر به يذكره بإبنه الراحل.. بضحكاته.. بتعليقاته الذكيَّة الساخرة من بعض المشاهد التى يراها فى الشارع.. بشقاوته وحيويَّته. فقدَّم طلب للحصول على معاش مٌبَكِّر وهو يعلم أنه لن يحصل سوى على بضع عشرات من الجنيهات لن تُغنى أو تٌسمِن.

وخلال فترة وجيزة كان عم سمير يبدأ حياة جديدة بالعراق بإحدى الهيئات الحكومية المعنيَّة بالبحث العلمى. ومثله مثل ملايين المصريين الذين كانوا موجودين وقتذاك.. أحب العراق وأهلها والحياة بها.. ولكن للأسف لم يستمر الوضع سوى عامين ختمهما الرئيس الراحل صدام حسين بغزو الكويت فى أوائل شهر أغسطس ١٩٩٠م. ويعود عم سمير بعد غزو العراق للكويت ليعمل بإحدى شركات المقاولات بالقاهرة وتستقر به الحياة فى هذه الدار الكائنة بحلوان.. جنوب القاهرة.. ورغم مرور عشر سنوات على رحيل ولده إلا أن الحزن ما زال يخيم على حياته.. وبين وقت وآخر يلمح إبراهيم دمعة تنساب من عينيه فى هدوء وسكون معلنة بأن داخل هذا الرجل الصامت بركان حزن دفين، لم يهدأ بمرور السنين.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة