صابر حسين خليل يكتب: التمثال

الخميس، 19 مايو 2016 06:05 م
صابر حسين خليل يكتب: التمثال حب - أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
صخرة صماء تطل على الطريق السريع على ارتفاع ثلاثمائة متر من سطح الأرض، اختار أدهم هذه الصخرة بعناية بعد أن أعياه البحث طيلة ثلاثة شهور، إنها الصخرة المطلوبة من حيث التكوين والصلادة والموقع، اختار هذه لتكون مشروعه القادم، أحضر ما يحتاج إليه من أدوات النحت والتسلق، فهو الأول على قسم النحت بكلية الفنون الجميلة، وهو صاحب رياضة تسلق الجبال، أراد أن يمزج بينهما فى مشروعه.

اليوم الأول فى مشروعه، صعد إلى القمة عبر طريق استطاع من خلاله الوصول إلى القمة صاعداً على قدميه، ولكن الصخرة التى يريدها لا يمكن الوصول إليها إلا عبر التسلق. أصبح فوق الصخرة التى يريدها يفصل بينهما 50 مترا لأسفل، أعد أدوات التسلق وربط مجموعة من حبال مخصصة لذلك ووضع ما يحتاج إليه من أدوات النحت فى حقيبة وضعها فوق ظهره، بدأ مستخدماً الحبال فى النزول إلى هذه الصخرة.

بعد معاناة وصل حيث يريد يفصله عن الأرض ثلاثمائة متر ويفصله عن القمة خمسون مترا. بين السماء والأرض معلقا، يسأل نفسه عن ذلك السر الذى جعله يختار هذا الوضع الخطر، سرعان ما مر بمخيلته صورتها. جميلة هى حينما يتمثل الجمال فى إنسان، رقيقة هى حينما يصبح للرقة عنوان.

المحاضرة الأولى لهما فى السنة التمهيدية بكلية الفنون الجميلة، التقت عيناهما فارتبطا من ساعتها برباط غريب بين روحيهما حتى صارا روحاً واحدة. رفيدة كان اسمها جميلة كان وصفها حباً كان همسها.

تعارفا فى يوم دراستهما الأول، فما افترقا بعدها رغم أنهما اختارا تخصصين مختلفين فى السنة الثانية، حيث اختارت قسم الديكور، واختار هو قسم النحت حيث يحب.

بدأ أدهم فى استخراج أدوات النحت وهو معلق وبدأ يتلمس الصخرة بيده قبل أن يبدأ أول طرقة عليها.

سرعان ما بدأ العمل مستخدماً أدوات النحت، ساعات طويلة قضاها أدهم فى نحته والعرق يتصبب منه وقد أنهكته شمس الصيف الحارقة. لكن طاقة قوية وعزيمة فوق مستوى البشر كانت تتحكم فيه.
مرت كل هذه الساعات ولم تتضح ملامح ما يقوم به، فالصخرة تأبى أن تؤثر فيها أدواته إلا كخربشات طفل صغير، لا يراها أحد.

أنهك التعب أدهم فقرر أن يكتفى بما فعله هذا اليوم وليعاود غداً العمل.
صعد إلى القمة بمهارة فائقة مصطحبا حقيبته.
عاد إلى الفندق الذى يقيم فيه، وأخذ حماماً ساخنا واستلقى على سريره، جاءته فى حلمه، بعينيها ذات اللون الأخضر، وكأنها تسأله عما يفعل، وتحاول أن تثنيه عن هذه المخاطرة.

سبق أدهم الشمس فى استيقاظها، تناول إفطاره صامتاً وهو لا يتكلم إلا بكلمات قليلة.
خرج أدهم وحقيبته إلى الصخرة وفعل ما فعله فى اليوم الأول. وصل إلى حيث كان بالأمس، بدأ العمل بأدوات نحته وكأن صلادة الصخرة جعلته يسرع أكثر فى العمل، السيارات تمر أسفل هذه الصخرة، الناس بدأت تلاحظه، بعض السيارات تقف ويشير الناس بداخلها نحوه وهو يبدو كنقطة صغيرة فوق هذه الصخرة.
والأطفال الذين يسكنون قريباً من هذه المنطقة بدأوا فى التجمع والنظر إليه. والكل يسأل ماذا يفعل. أيام تمر وأدهم على نفس نمطه من الاستيقاظ مبكرا وعمله مع هذه الصخرة. وعدد من يتابعون أدهم يزداد يوماً بعد يوم، يأتون عندما يأتى ويذهبون مع ذهابه، وهناك من أتى بتلسكوب حتى يراه عن قرب وهناك من أتى بكاميرا حديثة ليصور ما يفعله هذا المغامر.

الوقت يمر وملامح الصخرة تتغير شيئاً فشيئاً. العمل منهك، ولكن عزيمة أدهم لا تكل.
فى هذا الصباح التعب قد وصل مع أدهم مبلغه. وصل صخرته وأثناء نزوله انقطع طرف من الحبل فسقط أدهم مسافة كبيرة حتى منعه الطرف الآخر من السقوط، حاول جاهداً التمسك وقلوب من يتابعون من أسفل تكاد تقفز من مكانها. حاول حتى وجد مكان لقدمه فى هذه الصخرة، أمسك بالحبل ووضع قدميه فى مكان مناسب والتقط أنفاسه. عندها تذكرها، وكأن قلبها ينفطر عليه وهو يتسلق أحد الجدران فى مسابقات التسلق بالجامعة، عندما كاد أن يسقط صرخت: أدهم، لكن حبل الآمان منعه من السقوط. وعاود التسلق مرة أخرى ونجح، لكنه هو فى هذه اللحظة يبعد فيها عن الجامعة مئات الكيلومترات، هل شعرت به ؟ وهل قلبها أخبرها بأنه يعانى فى هذه اللحظة ؟ استطاع أدهم بعد صعوبة فى تسلق الصخرة مرة أخرى ووصل إلى القمة، بدل الحبل واستراح قليلاً، فلا وقت للراحة، عاود النزول ثانية وبدأ العمل على مشروعه، ملامح التمثال بدأت تتضح إنه وجه أنثى شديدة الجمال، صنعه بحجم كبير حتى يستطيع كل من فى الطريق رؤيته بوضوح.

تسلل خبر النحات فى المنطقة المحيطة بالطريق، أصبح عدد متابعيه بالمئات. وصل الأمر للمحافظ فطلب مقابلته، علم المحافظ أنه أراد صنع تمثال على هذه الصخرة.

تحمس المحافظ، فالتمثال فى مدخل المحافظة وسيصبح مميزاً لها تمثال فى باطن الجبل يراه المارة وسائقو السيارات.

حاول المحافظ تقديم أى دعم لأدهم، حتى يساعده على إتمام تمثاله، لكن أدهم شكره. وفى الطريق إلى الفندق، دارت الذكريات فى رأس أدهم وتذكر رفيدة عندما كانت تساعده فى عمله أثناء نحت التماثيل، فكانت تقدم له الأفكار التى تساعده والتشجيع الذى يلهمه.

وتذكر وقوفها بجانبه فى كل الأوقات، حب رفيدة أرغمه على التميز، أراد أن تكلل قصتهما بالزواج، سنوات الدراسة تمر وهو يمنى نفسه بالزواج منها، حبهما أنقى من أيام الدهر.

ساعات طويلة يقضيانها فى الكلية معاً لا يفترقا إلا وقت المحاضرات.
تذكر أدهم كل هذا، ملامح رفيدة تحضر أمام عينيه وملامح التمثال أيضاً، تتطابق ملامحهما. التمثال لوجه رفيدة الملائكى. أدهم يصنع وجه من أصلد الصخور لأرق وجه على هذه الأرض، كيف يلتقيان، نعومة جلدها وخشونة صخر الجبال. هل تطاوعه هذه الصخور وتلين بين يديه ليصنع تمثالاً يماثل جمالها وروحها ؟ أيتها الصخرة الصماء طاوعى يد هذا العاشق ليصنع منك صورة لمن يحب.
وصل أدهم الفندق، أخذ مفتاح غرفته، استسلم لنوم عميق لا تفارقه فيه رفيدة، ظلت معه فى أحلامه حتى الصباح.

كعادته استيقظ أدهم مبكراً، وأخذ أدواته وفى هذه المرة أخذ حقيبة أخرى قد أحضرها أمس معه من إحدى المحلات.

وصل أدهم إلى القمة وفى هذه المرة أحضر معه اثنين من العمال كانا فى انتظاره عند قمة الجبل. فتح الحقيبة وأخرج منه قماش كبير جداً، ربطه بأعلى من طرفيه ثم أسقطه لأسفل فغطى القماش التمثال بالكامل، نزل أدهم لأسفل وربط القماش بحيث لا يلتصق بالصخرة فيترك فراغاً ليتسنى له إكمال التمثال.
ما فعله أدهم وكأنه يريد أن يحجب تمثال حبيبته عن الناس حتى يكتمل، فإنه أراد ستره عن الناس حتى يكون فى أبهى صورة وكأنه لا يريد أن يراها أحد ناقصة الجمال.

بدأ أدهم عمله واستمر صوت خبطاته فوق الصخرة ليرسم تفاصيل وجه محبوبته، أيام طوال مرت والعمل مازال مستمراً.

الشتاء يدخل رويداً رويداً، الرياح تزداد وتزداد معها صعوبة العمل فى هذا الارتفاع، ولكن عزيمته أقوى.

فى صباح أحد الأيام حاول بعض ممن يتابعوه من تحذيره من هبوط الأمطار، لكنه أبى أن يضيع الوقت بلا عمل. وأثناء عمل أدهم على تمثاله، تنهمر الأمطار شديدة وهو معلق أمام صخرته وتمنعه شدة المطر من القدرة على الصعود.

المياه تزداد من فوق الجبل ومن الأمطار، يقع جزء من الساتر القماش من شدة الأمطار، يرى متابعيه هذا الموقف فيتصل أحدهم بالنجدة.

وسرعان ما تصل النجدة وينجح رجال الدفاع المدنى من سحب الحبل وإنقاذ أدهم، وكان المحافظ قد علم بالموقف فطلب منهم سرعة التصرف. تم نقل أدهم إلى المستشفى فى حالة سيئة، تم تقديم الرعاية الصحية له وراح فى نوم عميق نتيجة بعض المسكنات.

وفى شبه غيبوبته عاودته رفيدة وذكرياته معها، لحظة التخرج نجحا سوياً، ظنا أدهم ورفيدة أنها بداية لحياتهما. لم يعلما أنها نهاية هذا الحب، حيث رفض والدها أدهم عندما تقدم لخطبتها، وصمم على تزويجها من ابن عمها.

حاولت الفتاة مع والدها لكنه رفض حتى الحديث فى الأمر. قالت لوالدها إنها لن تتزوج من ابن عمها، فقال لها والدها لكِ ذلك، ولكن لن تتزوجى من أدهم هذا.

أدرك أدهم أن الحياة لن تعطيه ما تمنى. مرضت رفيدة واستسلمت لمرضها ولم يشفع لها المرض عند والدها.

أما أدهم فحاول عدة مرات مع والدها، لكنه كان أصم من تلك الصخرة التى لانت تحت طرقات يديه.
فى الصباح استيقظ أدهم من نومه فى المستشفى، دخل المحافظ ليطمئن عليه، وطلب منه ألا يجازف بحياته مرة أخرى، لكنه أخبره بأن التمثال سينتهى منه خلال يومين، ولا يستطيع أن يضيع عمل كل هذه الشهور.

فقال له المحافظ سنصنع احتفالاً لك بهذه المناسبة، ويذيعه التلفاز على الهواء. فرح أدهم بهذا واتفقا على أن يكون الحفل أول الأسبوع القادم.

فى الصباح أعاد أدهم تغطية التمثال مرة أخرى، ونزل ليكمل لتمثاله الرتوش الأخيرة.
فى الموعد المحدد للاحتفال، حضر المحافظ وكاميرات التلفاز والأجهزة المختلفة للمحافظة.
تمثال يشق الجبل، حدث يستحق المتابعة. حضره كل من كان يتابع عمل أدهم فى الشهور الماضية.
حتى سائقى السيارات الذين اعتادوا رؤيته حضروا ليروا هذا التمثال.

صعد أدهم للقمة ليزيح الستار عن تمثاله، استعد للنزول مثل كل مرة ليزيح الستار.
وأثناء محاولته يفلت الحبل من مكانه ليسقط أدهم من هذا الارتفاع الشاهق، أمسكت يداه بالساتر القماشى فانزاح عن وجه التمثال شيئاً فشيئاً، يسقط الساتر ويسقط معه أدهم.

العيون والقلوب تتعلق بأدهم، لم يدرك أحد ساعتها أنه السقوط الأخير.
نظر أدهم أثناء سقوطه لوجه التمثال، كم هو جميل وجهك يا رفيدة، كيف قبل هذا الجبل أن يخرج من جوفه هذا الجمال.

عينا أدهم تقارنان بين وجه رفيدة ووجه التمثال، سقط الساتر كله وسقط معه أدهم، وصلا سوياً للأرض، الكل حائر بين النظر للتمثال الذى خرج من جبل أصم وبين الفنان الذى سقط على الأرض.

هل مات أدهم نتيجة خطأ فى أدوات التسلق أم كان يقصد هذا السقوط ؟


مشهد صورته كاميرات التلفاز، شاهده الجميع عدا رفيدة التى لم ترى تمثالها ولم ترى موت أدهم، فلقد ماتت منذ عام أثناء مرضها.

وظل التمثال شاهداً على قصتهما، وظل مزاراً حتى هذه اللحظة.
فإن أبت الدنيا أن يجتمعا، فإن الموت جمع بينهما تمثال محبوبته وقبره حيث دفن أسفل هذه الصخرة حيث سقط كما كتب فى وصيته.
التقيا وجه من صخر وجسد يحتضنه صخر.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 2

عدد الردود 0

بواسطة:

محمد أبوهرجة

الاستاذ صابر

عدد الردود 0

بواسطة:

صابر حسين خليل

شكرا صديقي محمد

تعليقاتكم تزين ما اكتب شكرا ايها الصديق العزيز

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة